على طريق مسافي، وبعد سوق الجمعة وعلى يسار الشارع، واد سحيق بين الجبال تسيل على صخور قاعه مياه أمطار، بقايا ما تبقى منه، لكن الماء القليل والصخور التي تتلألأ تحته وبين جنبيه، كان كافيا لاجتذاب كثير من الأسر العابرة، خيم البعض منهم هنا وافترش البعض منهم الأرض هناك.

وشباب يكتظ بسياراتهم قاع الوادي، أطفال يستحمون في شبر ميه على حد تعبير إخواننا المصريين. جو لطيف، ورائحة طين الجبال والماء تبعثان الحياة في كل شيء، بركة صغيرة تسبح فيها ضفادع صغيرة في بداية مراحلها العمرية.. صغيرة جدا، لا أعرف كيف أمكن لبيوضها أن تسكن الصخور في صيف ساخن ودرجة حرارة فوق الأربعين، فسبحان الخالق..

سرنا مع مجرى الماء، نتـتبع ذهابه ويدفعنا الفضول، وفي الطريق تتناثر أفراح المخيمين والمارين، والمتأملين لصورة الصخور الملونة في الماء الجاري.. قال ابني: صار عندنا نهر صغير! لماذا لا يمتلئ هذا الوادي السحيق بالماء ويستمر حتى يأتي الناس إلى هنا كل يوم؟ سؤال مجاني طبعا، لا يراد منه سوى التمني.

لكن الصورة أعجبتني، وإجابة السؤال اعتقدت أنها ليست من المستحيلات، في عصر التقنية، ورغم قناعتي بأن الفكرة محض شطط، رحت معها للآخر ونحن نتأمل الوجوه؛ رجال ونساء وأطفال وشباب، جلسوا أو وقفوا للتأمل، وبعضهم لم يكتف بهذا القدر من الحياد، بل ذهب وأحضر عدة الشواء وجميع اللوازم، وكأنه قرر هجر المدينة وضجيجها ليسكن إلى الوادي ورائحة الطين والماء العذب.. ماذا لو امتلأ الوادي بالماء وبقي على الدوام؟ هل سيعود هؤلاء المحبون والعاشقون للطبيعة إلى منازلهم، المعفرة بالغبار، وأبخرة عوادم السيارات، وروائح الإسمنت الصناعي؟ أم أن ضفتي الوادي ستصبحان مستقرا للشعراء والحالمين، والساكنين إلى الطبيعة ومطلقاتها؟

تلاشى تدريجيا الماء الذي كنا نخوض فيه، نتتبع جريانه.. قال ابني: هذه هي النهاية، لقد اختفى الماء!

نزهة قصيرة وعابرة، وجبال المنطقة الشرقية التي تدكها الكسارات يوميا من أجل الأعمال والتطوير وأعمال التوسعة الضرورية وغير الضرورية، جبال تسكن الروح، والطريق الإسفلتي الذي يشقها بدأ يفقد ملامحه، مزارع ذبلت أشجارها، وبعضها تهاوى، ومزارع صغيرة وكأنها أرفف مكتبة يقاوم ملاكها من أجل بقاء الذكرى..

انتزعت فكرة صناعة نهر بالإبقاء على الماء في الوادي.. كما هو وادي إيشي المنعزل والبعيد في قمم الجبال. وكان شيء من خيبة الامل يداهم الفكرة.. فالجرارات والإسمنت الصناعي ما زالا يمارسان سطوتهما على طين الوديان!