في الشارقة تتبنى إدارة التراث مشروع يبحث في ذاكرة الأمكنة التابعة للمدينة، وقد تم تجنيد عدد من الرواة من أجل البحث في أصل تسميات المناطق والأماكن، وكان الملتقى الثالث للتراث الذي عقدته الإدارة قبل يومين في كلية تقنية البنات في الشارقة، قد تناول ملامح هذا المشروع، فيما قدم باحثون وتراثيون أوراق عمل في أهمية هذا المشروع الذي سيعمل على توثيق الذاكرة، حفاظاً لها من الاندثار ولكونها أمانة علمية وتاريخية يجب أن تتناقلها الأجيال.. لماذا سميت (غليلة) بهذا الاسم، والذيد وكلباء ومنطقة (الغبيبة) وخورفكان والمديفي، وايشي، ووسام والقرم وغيرها من مئات الأسماء؟

هذا ما سيجيب عليه المشروع البحثي والتوثيقي، لكن في المقابل، فإن المشروع ليس مشروع أسماء فقط، بل ذاكرة مكانية مليئة بالقصص والمعلومات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مليئة بكنيز ثقافة وحياة الإماراتيين وتفاعلاتهم. تاريخ اجتماعي ضاع منه الكثير، تلاشى وانفلش في معمعة اندفاعنا وهيجاننا باتجاه التجديد والتطوير والتحديث، الأمر الذي جعلنا نخلف وراءنا ملامحنا، التي نحاول اليوم استعادتها في استراتيجيات تحتاج لعمل شاق من أجل لملمة هوية صرنا نتباكى عليها، حينما بدأت تذوب وتنصهر في غبار ما هو قادم من وراء الشطآن.

الشارقة وهي تبحث عن ذاكرتها المكانية، ستكون وضعت يدها على كثير من المفقود والغائب. وليس أدل على هذا، إلا تلك القصة التي سردتها الباحثة فاطمة المغني، وكذلك الباحث سعيد حداد وهما يتحدثان عن مسميات أماكن في مدينة كلباء..

فمن منا يذكر اليوم تلك الحياة الاجتماعية المتفاعلة والفريدة من نوعها والتي كانت تأخذ مكانها على طين وصخور منطقة (وسام) التي يتذكرها أهالي كلباء اليوم وعيونهم تدمع حنينا إليها وإلى أيامها، وإلى أناس أحبوهم..

في منطقة وسام كان الأهالي ينتظرون سنوياً، وعند تباشير فصل الصيف قوافل القادمين من أهالي المدن إليهم، طلباً للراحة والاستجمام بين ظلال النخيل، وأشجار المانجو والليمون والزيتون والأعناب، نعم الأعناب..

كان صيف وسام يعني قدوم ثقافة أهالي المدن، وكان القرويون في كلباء ينظرون إلى الأفق عند تباشير صباحات الصيف.. حي كامل يقيمه أهالي المدن في وسام، حي برجاله ونسائه وصبيته وأطفاله وبناته.. وأهالي المدن، لبسهم غير، يسمعون الجرامافون، يقرؤون في مجلات تأتي إليهم عبر البحار.. يتبادل أهالي كلباء وأهالي المدن في أيام وليالي وسام الثقافة والمعرفة، والعلاقات، والحب أيضاً، مثلما يتقاسمون ثمار الصيف التي تجود بها المزارع.. تلك الحياة الاجتماعية، الثقافية الاقتصادية، مصحوبة بحكايات الفلكلور، كلها كانت رصيد القادمين والراحلين من وسام.. اليوم نمر على وسام، نحن الذين لا نعرف أي حياة دبت فوق صخورها.. تلاشت تلك المعرفة، وتلك الذاكرة.

مثل وسام والذاكرة التي اختزنها كثير، في مناطق من شرق البلاد إلى غربها، ضاعت تلاشت، انتهت، حتى الأمكنة ذاتها فعل بها الاسمنت ما فعل.. ما زالت تنتظر أن يخط عنها قلم مدون أن يوثق بقايا قصصها، لأن هذا كله أمانة تاريخية تخص هوية المجتمع الإماراتي والإنسان الإماراتي.