تعليقات كثيرة ومتتابعة حول الحدث الذي جرى مؤخراً في مصر واستهدف الإخوة المسيحيين، ألا وهو التفجير ضد كنيسة القديسين في الإسكندرية، وما حدث مقصده الأول والأخير ضرب المصريين ببعضهم، ورفع حدة الغضب ضدهم وإشغالهم عن واجباتهم الأساسية، وضرب الوحدة الوطنية في مصر، وإشعال فتيل الأزمات والصراعات، وهو أمر لا يقره الإسلام.

والحدث إجرامي بكل المقاييس، فسفك الدماء وقتل الأبرياء بغير حق، أمر لا يقره شرع ولا عقل، والإسلام ليس دين التفجيرات ولا يجيز استهداف دور عبادة غير المسلمين، وما حدث أمر محزن ومؤسف. إن التفجير الذي استهدف الكنيسة دوى في مشارق الأرض العربية ومغاربها، كجرس إنذار بزلزال يتهدد مصر ومعها المستقبل العربي جميعاً، بخطر داهم على المصير.

والهجوم يمثل الإنذار الأكثر جدية وخطورة للأمة جميعاً، بتاريخها، بحاضرها، بمستقبلها كما بدورها أيضاً.

كل ذلك بدوره يلفت نظرنا إلى أن هناك خطاً بيانياً خطيراً، لتنقل هذا العنف من العراق إلى مصر وربما سواهما من بلدان عربية (لا تزال) تتمتع بواقع تعددي ديني ووجود مسيحي معقول.

لكن إلى متى نلقي تهم تخلفنا وجمودنا على من سوانا، ونحن السبب كأفراد ومواطنين قبل أن نكون حكاماً، في ما يجري لنا، ونطمر رؤوسنا في الرمال وكأننا غير معنيين بالأمر؟! وهذا يذكرني بالنصٍّ البابليّ القديم الذي يعود إلى زمن الملك الآشوري بانيبال، أي قبل أكثر من ألفين وستمائة عام، وقد وجدت فيه «بعض» إجابة على سبب هذا الجمود والتخلّف، حيث يدور حوار طويل بين سيدٍ وخادمه، أطرف ما فيه هو قدرة الخادم (المطيع) على مسايرة رغبات سيّده، وتبريرها كلما عدل عن رأيه ومهما تباينت تقلّباته. فمرّة يقرّر السيّد أن يتصدّق بالطعام على أهل القرية الفقراء، فيبارك له خادمه خطوته ويؤكّد له أنّ من يتصدّق يزداد محصوله. وفجأة يقرّر السيد الامتناع عن التصدّق، فيسارع الخادم لتبرير ذلك له بقوله: «لا تفعل يا سيدي، سيأتون على قمحك، ثمّ يصبّون اللّعنات على رأسك». ومرّة يفكّر أن يعشق امرأة، فيزّين له الخادم هذا الفعل بأنّ العاشق ينسى حزنه ويطرد خوفه. فيتراجع السيّد مرّة أخرى، ولا يتوانى الخادم في التبرير له بأنّ المرأة جحر، وهاوية، وفخ، ومصيدة، وهي خنجر حديدي مسنون يقطع رقبة الرجل! ثم يقرّر السيد أن يكوّن أسرةً وينجب أطفالاً، وفجأة يعدل عن قراره، فيوافقه الخادم في كلتا الحالتين بتبريرات لم تكن لتخطر على بال السيد وهو يتقلّب في تردّده بين نقيضين، فيصادق الخادم على الحالين بحسب رأي سيده، ويزين له محاسن ومساوئ فعله وعدم فعله!

تشبه علاقة جُلّ أبناء الأمة بأسيادهم (السياسيّين أو الدينيّين والمذهبيّين) علاقة هذا الخادم بسيّده، فالمستبدّون من الحكّام أو رجال الدين، يقرّرون أو يُفتون ثم ينقلبون على قراراتهم، ثم يقرّرون ثانية ويعدلون، وثالثة ويتراجعون بلا سبب وجيه، لأنهم يعلمون أنّ هناك من التابعين من سيظلّ «معهم معهم» برباط أبديّ، وسيجد لهم المبرّرات مهما تناقضت أفعالهم أو خالفت مبادئهم التي ينادون بها.. مع فارق أنّ السيد في النصّ البابلي لاحظ أنّ الخادم يقول له ما يريد أن يسمعه، بغضّ النظر عن الحقّ. فباغته في خاتمة الحوار بسؤال عن مفهومه للخير والشرّ، إن كان كلّ تصرّف مهما ساء يمكن تبريره، فتجرّأ الخادم وردّ على سيّده بأنّ الخير: «هو أن يدقّ عنقك وعنقي، وأن تُلقى في البحر وأُلقى فيه»، فردّ عليه السيد بأنه سيقتله ويرسله إلى البحر أوّلاً، ليجيب عليه الخادم متحدّياً: «لن يحتمل سيدي العيش بعدي ثلاثة أيام»! وفعلاً لم يقدم السيد على قتله، فكلّ منهما يستمدّ مادة حياته من الآخر.