للهواء رائحة، للماء طعم، وللنهار لون، خاص بكل بلد، وكل ذلك في تغير مستمر مع ارتفاع نسبة التلوث، وانخفاض مخزون المياه الجوفية، والتوسع في العمران باتجاه الصحراء، مما جعلنا في حنين دائم إلى نسيم الصباح النقي، ولون الرمل الأبيض، وطعم الماء القادم مباشرة من قلب أرضنا. وحنيننا لم يتوقف عند ذلك، ولكنه ظل ممتداً إلى أشكال من البنيان والعمارة، اندثرت وكأنها لم تكن ولم تمر خطوطها على هذه الأرض، على الرغم من عمرها القصير نسبياً.

في خضم ذلك لم ننتبه كثيراً للملامح الخاصة بإنسان هذه الأرض وهي تتلاشى وتختفي مع كل تلك الأشياء، ربما لأن ذلك حدث ببطء نسبي، إلى أن اختزل أو كاد في شيابنا، ظل كبار السن ذوو الجباه المضيئة والابتسامة الحنونة واللفظ الطيب حولنا زمناً ليس بقليل، ننظر إليهم فنشعر أن الدنيا بخير، ما دام فيها (شيوخ ركع)، ببساطتهم ومشيتهم الوقورة وعطرهم الذي لا يزول. طاقة من الأمل والأمان كانت تتفتح أمامنا كلما رأيناهم ولو من بعيد، وهم ذاهبين أو عائدين من المسجد.

انتهى كل ذلك أو كاد، شيابنا الوقورون وعجائزنا الرائعات لم يعد لهم وجود تقريباً حولنا، فبدأنا نشعر فعلاً، بثقل الحياة، وبغياب تلك الطقوس والعادات التي كانت تأخذنا في أحضانها بلطف كلما التقينا بهم، فنشعر بأن الدنيا بخير وأن لا معنى لقلقنا واستعجالنا وخوفنا من الغد. نتذكر تحاياهم الطويلة، قصصهم وحكاياتهم الشيقة ودعاءهم الدائم، والسكينة التي ترافقهم كمظلة أينما كانوا، فندرك حجم خسارتنا بغيابهم من عالمنا.

ليسوا ملائكة ولكنهم لا يتكررون أبداً، فلقد نشأوا على الفطرة وعاشوا على السماحة وكبروا على معاني الخير والبر والعطاء. زمنهم بكل مكوناته المادية والمعنوية صاغهم صياغة فريدة، فصاروا بركة على البلاد وفرحاً للأهل والأبناء والعباد، ورحمة للغريب والمحتاج. بل أكثر من ذلك كانوا آية في النظافة والنظام والترتيب، حتى أن أحدهم ليرحل ويترك خزائنه غاية في الترتيب والبساطة، لا تحوي إلا ما كان يستعمل من ثياب وحاجات، من دون إٍسراف ولا تخزين ولا تكديس.

لكل منا قصصه وحكاياته مع من كان يخصه منهم، من الوالدين أو الجدود أو الأقارب والجيران، ولو تحدث كل واحد عن ذكرياته معهم لأضحك كثيراً وأبكى كثيراً، لم تعد تلك الأحضان ولا الدعوات ولا النور يستقبلنا صباح مساء فتنشرح النفوس وتسعد القلوب. غيابهم جعل حياتنا روتيناً مملاً، وجفافاً وجفوة، وبعداً عن الجمال الطبيعي في علاقاتنا بلا رتوش، ولا رياء ولا تكلف.

بقي منهم بقية؟ نعم، وعلينا أن نزيد في برهم واحترامهم، فالجفاف بعدهم لن يطاق، ولكن الغالبية رحلت لتترك لنا تلك المهمة الصعبة، في جعل حياتنا مكاناً مناسباً للإنسان الذي كرمه الله ومنحه الدرجات الرفيعة في الوجود، تركوا لنا مهمة صبغ الحياة بالثقة بالله والتوكل عليه، والتواضع لخلقه، تركوا لنا مهمة الحفاظ على ذلك الإرث الثمين من الأخلاق الرفيعة والقيم الغالية، ما استطعنا، فلا يأتي أحد ليقول بمرارة؛ ذهب الذين أحبهم، وبقيت فيمن لا أحبه.