ليست حيازةُ الأَصوات الأَكثر في البرلمان تفويضاً مطلقاً للحكم المنتخب، ولا يمكن أَنْ تحجب مؤاخذاتِ حساسياتٍ مدنيةٍ متنوعةٍ في المجتمع، بذريعة أَنّ أَعضاءَ البرلمان المنتخبين ممثلون عن شرائح هذا المجتمع وقطاعاته، وعن تكتلاتٍ سياسيةٍ فيه، وبدعوى أَنَّ خيارات الأَغلبية لا يحسنُ أَنْ تُواجَه بغير انتقاداتٍ واجتهاداتٍ في الصحافة، وفي فضاءات الرأي العام، من دون أَنْ يعني ذلك ضرورة الأَخذ بها.

مناسبةُ التذكير بهذه البديهية، المنسيّة غالباً، ما تعرفه، وعرفته، ستون مدينة كبرى وصغرى في تركيا من احتجاجات، واسعةٍ بعض الشيء، منذ نحو أُسبوعين، وتشارك فيها تمثيلاتٌ شبابيةٌ ونقاباتٌ وأَوساطٌ مثقفةٌ وشبانٌ بميولٍ يساريةٍ، ومع هذه كلها ثمّة أَحزابٌ معارضةٌ تستثمر أَجواء الاحتجاج التي أَوقدها قرار إِزالة 600 شجرة في ميدان وسط إسطنبول، لإقامة مجمع ثقافي ومركز تجاري.

والبادي من نبرةٍ متوترةٍ تتبيّن في لغة رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أَردوغان، أَنه لا يقيمُ على قناعةٍ بهذه البديهية، حين يرمي المحتجين والمتظاهرين بنعوتٍ مسيئة، فاجأت كثيرين ممن ابتهجوا لنصرته ربيع العرب إِياه. ولمّا طالعنا تصريحاتٍ لمسؤولين أَتراك، يتقدّمهم الرئيس عبدالله غول، وجميعهم قياديون في حزب العدالة والتنمية الحاكم، تُغاير ما جهر به أَردوغان، فذلك ما قد يشير إِلى وجاهة اجتهادٍ يرى أَنَّ ثمة جناحاً متمكناً في الحزب، وفي السلطة، لا يتفق مع منطوق أَردوغان، وربما يخالفه في بعض توجهاتِه وخياراته.

لا تعني المنجزاتُ الاقتصاديةُ والسياسيةُ الظاهرة، والبالغةُ الأَهمية، في تركيا، وقد تراكمت في زمن الأَردوغانية هناك طوال عقدٍ وأَزيدَ قليلاً، شيكّاً على بياض للزعيم التركي الأَبرز للقيام بما يشاءُ، وإِنْ غيرةُ الرجل على بلادِه ونهضتِها وتقويتها، وعلى مصالحِها وصورتِها ونفوذِها، مؤكّدة.

ولمّا كان حرق محمد البوعزيزي نفسَه ليس سبباً للثورة على استبداد زين العابدين بن علي في تونس، فمن البلاهة أَنْ نرى إِزالة أَشجارٍ في ميدانٍ عام سبباً لتظاهراتٍ حاشدةٍ ضد أَردوغان (ليس بالضرورة ضد حزبِه؟).

ومن المفارقة، وبعيداً عن أَيِّ إِحالةٍ أَو مماثلة، أنَّ مؤشرات النمو الاقتصادي في تونس، في سنوات ابن علي الأَخيرة، كانت طيّبةً وواعدة، لكن ارتفاع نسب البطالة بين الشباب المتعلم كان من مظاهر تشوّهاتٍ في التخطيط الإنمائي في البلاد. وأَوضح خبراءُ وعارفون في شؤون تركيا، أَنَّ ثمة مظاهر خللٍ ليست هيّنةً هناك أَحدثتها الخياراتُ الليبرالية والاستثمارية النشطة في بلاد الأَناضول. يُشار إِلى هذا، وثمّة غيره، وفي البال أَن نجاحات «العدالة والتنمية»، بزعامة أَردوغان، ليست قليلة، ومنها رفع وصاية العسكر عن الحياة السياسية والأَداء الحكومي.

يعنينا، نحن العرب، من المستجدّ التركي، أَنْ نقف في غضونه على الدرس السياسي والديمقراطي فيه، أَما اصطفافنا مع أَردوغان أو ضده، ونحن نتابع الجاري في ميدان تقسيم في إسطنبول، صدوراً عن مواقفنا بشأن المحنة السورية، فذلك من بلاهاتنا التي لا تتوقف.