أَربعة ميكروفونات للتنصّت، زرعتها المخابرات المصرية في 1968 في السفارة الأَميركية في القاهرة، بأَمرٍ من جمال عبدالناصر ومتابعته، في عمليةٍ سمّيت «الدكتور عصفور»، فوقعت القاهرة بوساطتها على معلوماتٍ ثمينة، ثم أَنهاها أنور السادات بعد عام من رئاسته.
وسوّغ عبدالناصر تلك العملية التجسّسية المثيرة، والمخاطرة المحسوبة، كما وصفها محمد حسنين هيكل، بالحاجة الشديدة للمعلومات، إِبّان حربٍ سياسيةٍ واستخباريةٍ بين مصر والولايات المتحدة، شديدة الحدّة في تلك الغضون.
وكان في ذهن الزعيم الراحل تجنيد واشنطن للصحافي، مصطفى أَمين، سنوات في تزويد مخابراتها بمعلومات عن مصر وعبدالناصر نفسه، الذي كشف «الدكتور عصفور» أَنَّ واشنطن درست خطةً لاغتياله. وتعد تلك التفاصيل البعيدة من عمليات تجسّس وفيرةٍ انخرطت فيها دولٌ عدة ضد بعضها، سيّما في سنوات الحرب الباردة وصراع النفوذ بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
وتُحقق القراءة في هذا الأَرشيف بعض التسلية، سيّما وأَنَّ ما فيه سيكون ميسورَ الإدراك، غير أَنَّ ما تواتر، الأسبوع الجاري، عن عمليات تجسسٍ واسعة، تقوم بها الولايات المتحدة منذ سنوات، على شركاءَ وحلفاءَ وأَصدقاءَ لها، شديد الإدهاش، لصعوبةِ تفسيره.
غضب الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، بحدّةٍ من التصرف الأَميركي، وسفارة بلاده في واشنطن من 38 بعثة تتجسس عليها الولايات المتحدة، وقال إِنَّ باريس لا يمكن أَن تقبل ذلك، وطالبَ واشنطن بالكف فوراً عما تقوم به.
أَما باراك أوباما فلم يجد مبرراً للغضب الأوروبي مما «ترتكبه» وكالتا الأَمن القومي والاستخبارات الأَميركيتان، إذ يبلغ صحافيين سألوه في هذا الشأن، بأَعصابٍ باردةٍ ونبرةٍ مازحة، أَنه يضمن لهم أَنَّ الأوروبيين يريدون معرفة ما يتناوله في فطوره، وما يبحثه في الاجتماعات.
وزاد أَنَّ كل جهاز استخباريٍ يريد معلوماتٍ ليست في الصحف والتلفزات. هكذا هي القصة ببساطة، بحسب رئيس الدولة الأَقوى في العالم، وإِنْ أَعطى وزير خارجيتها، جون كيري، المسألة جديّةً لازمة، فقال إِنَّ غالبية الدول، وليست الولايات المتحدة فقط، تنفذ نشاطاتٍ كثيرةً لحماية مصالحها وأَمنها القومي.
هكذا يُراد لنا أَنْ نفهم لغز تجسس أَميركا على فرنسا وإِيطاليا واليابان وتركيا، ودول كثيرة أُخرى، وكذا على مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسيل وبعثته في واشنطن. وبالقياس، لنا أَنْ نفهم أَنَّ إِسرائيل، الحليفة الأَهم للولايات المتحدة، تزرع جاسوساً مكيناً على مؤسساتٍ عسكريةٍ وأَمنيةٍ أَميركيةٍ شديدة الحساسية، اسمه جوناثان بولارد، لم يجرؤ أَربعة رؤساء أَميركيين على الإفراج عنه.. إِنها طبائع الدول، لا مطرحَ فيها لمشاعر الأَفراد حين يكونون أَصدقاء، وإِنْ بودٍّ غامر وحميميةٍ فائضة.
وحين تتجسّس الأَجهزة الأَميركية على مراسلات ملايين الأَميركيين ومكاتباتهم وهواتفهم، بدعوى اتقاءِ مفاجآت «الإرهاب العالمي»، يصبح على فرانسوا هولاند أَلا يمضي بعيداً في زعله، وفي وسعِه أَنْ يتسلى بمعرفة فطور أوباما في تنزانيا، وللعرب أَنْ يشتاقوا للدكتور عصفور في سفارة أَميركية.