قال لي إِنَّ طول الصراع العسكري في سوريا يزيدُ من التعصب والتطرف الأُصولي هناك.. وقال لي إِنَّ مجموعاتٍ في الثورة السورية تُسيء إليها، وتستفيد منها أَكثر بكثيرٍ مما تفيدها... إِنه الإيطالي الأصل، السوري الروح، الشامي اللهجة، الأَب اليسوعي باولو دالوليو (78 عاما). كان ذلك في صحبتنا في مؤتمر سوريٍّ في القاهرة قبل عشرة شهور، وكان فيه هذا اليسوعي النبيل، والبهي في استثنائيّة شخصيته، يُشيع بيننا بهجةً خاصّة، إِذا ما دردش في أَي شأن، وهو المتخم بشوقه "للبلاد".
وهذه سوريا في باله، والتي أَقام فيها ثلاثة عقود، متنسكاً في دير قرب النبك في جبال القلمون في ريف دمشق. وفي صيف العام الماضي، طرده النظام، لكن روحه بقيت هناك، وقد انحاز إلى حق شعب سوريا في التخلص من "نظام الأَسد الساقط منذ ولادته"، على ما وصفه مرّة. وطوال العام الذي مضى، ظل أَبونا، كما كنا نناديه، يتردّد على سوريا، وعلى ثوارها وناسها في مناطق تحرَّرت من سلطة "الاستبداد المديد"، بحسب نعته الحكم الباغي في دمشق. وفي رمضان العام الماضي، أَقام أَياماً في القصير، ولم تكن ميليشيات حزب الله قد غزتها، وشارك صائمين هناك إِفطاراتهم، وتبرَّع من دمه لجرحى فيها.
ونُشر أَنه في رمضان الجاري، في مقامه في السليمانية في العراق، صام أَياماً، محبّةً منه بإِخوته المسلمين، وبادر إِلى زيارة الرقة، المدينة المحررة من سلطة آل الأَسد، للمساهمة في إِيقاف عمليات خطفٍ بين عربٍ وأَكراد، غير أَنَّ مجموعةً متخلفةً متعصبةً، تقول إِنها تنتسب إِلى الإسلام، اختطفته.
سلوكٌ لا ينتمي إِلى غير الجنون الفالت، ووجود مرتكبيه في سوريا الثورة، وتفشّيهم في تفاصيلها، يدلُّ على خرابٍ غير هين هناك، أَصابَ نفوساً غير قليلة، يجعلها تتوهم سلطةً لها باسم الإسلام، تبيحُ لها احتجاز رجلٍ في روعة الأَب باولو، الراهب الذي يرى أَنَّ "التآخي الحضاري في منطقتنا، وفي بلاد الشام، هو ما يُحصّنها ضد أَيّ شرور". والشرور التي تُشيعها مجموعاتٌ متعصبة، وترتكب أَفعالاً إِرهابيةً مشينة.
فيصدقُ على بعضها وصفها عصاباتٍ مسلحة. وليس ثمّة ما هو أَحلى لدى نظام الأَسد وشبيحته من أَن يتكاثر هؤلاء أَكثر فأكثر، ليختطفوا وينهبوا ويقتلوا، ولنكتب نحن أَنَّ هذا كله نتاج سياساتٍ تمييزيةٍ وقمعيةٍ واصلها النظام المذكور عقوداً، من دون أَنْ ننتبه إِلى خطورة أَنْ نصمت عن جرائم هؤلاء، وقد صارت تستحق الجهر بمواقفَ بشأنها أَشدَّ وضوحاً.
إِنه الأب باولو يا هؤلاء، ما من أَحدٍ أَحبَّ سوريا والسوريين مثله، نشط، منذ شهور، من أَجل معالجة انقساماتٍ طائفيةٍ وعرقيةٍ بين المعارضين المسلحين. معيبٌ خطفُه، ومسيءٌ إِلى ثورةٍ قال إِنه على ثقةٍ مؤكدةٍ بانتصارها. يشتهي عودتَه إِلى مطرحٍ بين شجرةِ زيتونٍ وصخرةٍ، اختاره في الدير الذي رممه، مثوى له، أَطال الله عمره، وفك احتجازه.