مفارقةٌ كاشفةٌ، وعامرةٌ بالدلائل والمغازي، وباعثةٌ لقراءاتٍ في علوم النفس والاجتماع والسياسة، حادثةُ الاستقبال الاحتفالي الذي نظَّمه آلافٌ من سكان مدينة بالي قرب سراييفو، لمومشيلو كرايسنيك، أَحد القادة السابقين لصرب البوسنة، والذراع اليمنى للزعيم السياسي السابق لهؤلاء، في الحرب مع الكروات والمسلمين (1992 1995).
كان الاحتفال به لدى وصوله إِلى المدينة، بعد الإفراج عنه في لاهاي، وقد أَمضى ثلث عقوبةٍ بالسجن عشرين عاماً، بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
يستغربُ هذا الرجل الاحتفاء الواسع به، ويدعو أَمام حشد مستقبليه إِلى نبذ مشاعر الكراهية، "لأَنَّ المهزومين وحدهم يشعرون بالكراهية، وبالرغبة في الانتقام".
وفيما يصف نفسَه، صراحةً، بأَنه مجرمُ حرب، يعتبره مستقبلوه "رجلاً شريفاً وسياسياً عظيماً". وأَثار الابتهاج بالمذكور، معطوفاً على خلع هذه الأَوصاف عليه، استياءَ منظماتٍ للدفاع عن حقوق الضحايا، وقال اتحاد أَسرى الحرب السابقين في البوسنة إِنَّ كرايسنيك كان جزءاً من نظامٍ ارتكبَ عمليات قتلٍ وتعذيبٍ مروعة.
كأَنَّ التطهير العرقي التي خطَّطت له قيادات الصرب، وكان المُحتفى به منهم، لم يكن كافياً، وقد أَدَّى إِلى مقتل مائة أَلف شخص، ونزوح أَكثر من مليونين، فقد كشف أن الغرائز الطائفية والإثنية ما زالت يقظةً ومستنفرة، ولم يشف الصرب بعد مما نظن أَنه صار من ماضيهم.
ليس هذا صحيحاً، ما يجيز الظنَّ أَنَّ الحروب الأهلية لا تنتهي بوقف العمليات العسكرية، والكفِّ عن جرائم الخطف والترويع والتشريد، بل تستمر بأَشكالٍ أُخرى.. ولأَنه يحدُثُ أَنْ نسمعَ فاعلياتٍ لبنانية، لبعضها مقاعد في البرلمان، تعبيراتٍ تكشف أَنَّ الأَحاسيس الطائفية والنوازع السياسية إياها، والتي تسببت بالحرب الأهلية اللبنانية المعلومة، تقيمُ في مطارح عميقة فيهم، ولدى قطاعات عريضة من جمهورهم.
تُرانا نصير محقّين، لو جازفنا بالذهاب إِلى الصراع الأهلي في سوريا، طالما أَنَّ ثمّة استسهالاً في قسمة سوريين شعبهم إِلى إِرهابيين وشبيحة، وكذلك ما أَحدثه النظام في البلاد من توزيع المجتمع، طائفياً وجهوياً وقومياً، وزاد على ذلك أَنه ساعد، في ممارساتِه العسكرية وفظاعاتِه الإجرامية، في إِشاعة مشاعر التوجس والكراهية والحقد، محل التسامح والعيش المشترك والانتماء إلى مجموعٍ واحد.
لا نتمنّى لسوريا وأهلها، في شتاتهم ووطنهم، ما صار في البوسنة والهرسك، والمتمنّى على المعارضات السورية الوفيرة، ذات السمت الإسلامي والنزوع العلماني، أَنْ تنشط في حماية بلدها وشعبها من مآلاتٍ مفزعة، يُحتفى في أثنائِها بمجرمي حرب، أَصابهم بعض الرشد، بعد أَنْ عوقبوا ببعض ما يستحقون، واعتبروا أَنفسهم مجرمي حرب. لا نشتهي لسوريا مثل هذا الحال الكئيب، لكنَّ ما جرى في مدينةٍ صربيةٍ في البوسنة أَشعل تحسباً ما.