ندور في الدوائر نفسها، على خطوط ومسارات محددة سلفاً وشعارات وهتافات حبرها واحد، محكومون بأن نكون «خرطوش» أحدهم أبداً، نرفع أعلامهم باختلاف تلاوينها فيما لا يرفعون إلا رايات دَوس كراماتنا، ولا يشربون الأنخاب إلا من دمائنا نسكنها لهم طواعية. لطالما كانت الحيادية مهمشة في دفتر يومياتنا السياسية، وقابعة ضمن آخر كلمات الأبجدية اللبنانية غائبة عن ثقافتنا...
لكن المساومة على لون مؤسسة يفترض أن تجمع على خلفية بيضاء كل الألوان محاطة بأحمر الشهادة، وأخضر الوطن معادلة تتخطى معدل الخطر، لتنحدر إلى العمى الوطني من رتبة الميؤوس منه.
إنها المعادلة ذاتها، التي أفضت بين الفرض والممانعة إلى مشهد معيب في زمن رضي أهله بالعيب المدفوع على الكرامة المجانية، وأبى إلا أن يثبت أنه ممعن في تولية شخوص على صورته ومثاله، ليستمر الدوران في الحلقة المفرغة بذريعة الخوف من ابتلاع الآخر..
وعلى قاعدة ليّ الذراع، وكأنه بقي لهذا الوطن الصغير أذرعاً إلا وحطموها وأرجلاً وقطوعها وأجنحة وكسروها، فغدا المسكين بأوصاله المفتتة يعيش على رمق من هوية، ولا يجد أملاً في إعادة لحمته إلا غراء الوعي والحس الوطنيين المغيبين بحكم الضرورة، ومستلزمات الستاتيكو.
ضاقت أفق أهل الحرف لترسمها صور أياد سود، فتمزق الجسد بقطع الرأس وشلّ الجزء المشرع وعيش بشق النفس لما تبقى. خفت نبض القلة المتفردة عن الخط العام، وكثرت التساؤلات.
فإن كنا ارتضينا فرضاً أن تكتب الأيدي الخفية بوقاحة تاريخنا الموصوم فلماذا نسلم لهم قدرنا، ونجعل من كتاباتهم مصيرنا المحتوم؟ لماذا تترصدنا ذئاب المصالح ويضيع معنى الحراكات ولبّها وتنطفئ الشعلة قبل أن توقد النار فيها، نار المشتعلة صدورهم، على قلتهم، لاء كبت دويها ارتفاع حدّ الصفقات وتواقيع المأجورين.
لم تعد تليق بنا كلمة وطن، ولم نعد نستحق الوطن، أو يستحقنا. أي وطن، وطن مشرد عنه مواطنوه طوعاً، مسلوخون عن كنه المواطنة، أحنوا الرؤوس فطأطأ رأسه الوطن وسكن العلم، لم يعد يتمايل للريح، ولا عاد له مكانة في العلى.
في سبيل آخر مضت السيوف، وعلى وقع الإملاءات كتبت الأقلام، وطال مدى السهول على يد المستسهلين المفرطين بمنابت الرجال.