هذا الحمام الزاجل يحلق نحو الميناء. يقطع آلاف الأميال، يخترق السحب، شهبا تتوق إلى التكسّر على حواف الألفة والمكان الأوّل. تهب الريح الموسمية، ينزل المطر الدافئ، لكن الحمام ماض لا يأبه. كأنه في رحلة مقدسة لا يمكن لشيء أن يعترض سيرها، فلا يفتر له جناح، ولا تهمد عزيمة، وإلا فالموجة مدفن ينتظر ابتلاع الريش. يحلّق لكي يخبر الحكاية، منذور هذا الحمام للحكاية، لذلك فهو زاجل، يزجل بها ومن أجلها.
قبل الغرق، كان في أقفاصه، في قعر السفينة، يخرجه البحارة حين يشتاقون للتمسيد على وبره، يهدل بدلال وغنج، فلعلّ الزاجل يفهم لغة البشر وهم يفهمونه: "يا حمام، يا حمام، لا تحلّق في الفضاء، ابق معنا طالما حيينا، وهناك، على بر الأمان، حين نصل إلى موانئ الخير، ندس لك أشهى الحبوب، وتتزاوج بأجناس جديدة، وترفرف فوق سطوحنا الجديدة لتذكرنا بالوطن وبالغائبين وبالأيام الخوالي.. يا حمام، لا تكسر القفص، لا تخرج من السفينة".
ثم يجيء حرّ شديد، ويذهب نصف عقل البحارة، وتهتاج فئران المخازن، ويهدر ذعرها في قعر الليل، وتنفذ الروائح الكريهة، ويذهب النصف المتبقي من عقل البحارة، يصابون بالجنون، إذ لم يتحملوا المرض والقيظ ورائحة الفئران، ويبتعدون عن الدفة، فتسقط السفينة في وادي الموت، وتتكسر أخشابها قبل أن تلمس اليابسة. تتكسر الأقفاص ويطير الحمام الزاجل..
ها هو، في رحلة العودة إلى المكان الأول، لا تملّ أجنحته من الرفرفة، مدفوعة بالفزع وهول ما رأى، ممسوسة بالجنون الذي انتشر على السفينة قبل أن يغرقها، بالصيحات والأدعية والأهازيج، قبل أن يخبو الصدى، ويتحوّل الحلم إلى حكاية، والحب إلى هزيمة، والخير إلى بؤس.
"يا حمام، يا حمام، لو تكسّرت سفينتنا، قبل أن نلامس الحلم والحب والخير.. ستطير بعيدا عن أقفاصنا، وتهدل بعيدا عن أنفاسنا، وستعود للأحبة، تخبرهم أننا لم نصل إلى البر، بل إلى القعر، وأنهم لن يتمكنوا حتى من زيارة قبورنا ورمي وردة.. وستصرخ أول أم، من فوق السطح، حين تراك عائدا لميناء المكان الأول، وتنتحب أول حبيبة ويبكي أول عجوز".
"يا حمام، يا حمام، قلوبنا مثل السفن، حين يفارقها الهديل تكون قد.. غرقت"!