ورأيت فيما يرى النائم أن طائر الرخ العملاق، انقض عليه، وحمله من كتفيه، وحلّق به عاليا، ثم سأله: «كم طفلا قتلت؟» فقال فزعاً: لا أعرف، أفلتني أرجوك، فنقر له عينا، فسالت منها صور كثيرة لأطفال معذبين.

كانت الصور تتدفق من عين الرجل، كنهر «زيمبي» العظيم، وكانت الأمهات، في الأسفل، يتلقفنها بلهفة وحسرة. تعلق الصور على أشجار النارجيل، تختبئ كما طيور نادرة ومتغاوية، تتسلق الأمهات الشجر، ويقطفن صور الأطفال كمن يقطف الياسمين المتدلّي عن حوائط صيف رطبة.

تهب الريح، تطير الصور إلى الشاطئ، يأتي موج مجنون لا قمم له ولا زبد فيه، يبتلع الصور، تغطس الأمهات إلى القاع، خلف الصور، تحوم حولهن عرائس البحر، تحميهن من الغرق..

يسأله طائر الرخ العملاق مجددا: كم طفلا قتلت، فيردّ الرجل مذعورا، فيما شفتاه ترغيان بسائل جبان: لا أعرف، رجاء أفلتني! فينقر الطائر لسانه، وتنفلت من فم الرجل حصى سوداء كريهة اللون والشكل والرائحة، تتوهج كأنفاس بركان مخنوق أو تعويذة شيطان متربص.

تتساقط الحصى الكريهة من فوق، تحرق أسطح البيوت المحفورة من صخر الشعب المرجانية، تشعل النار في أصص الفلّ والنارنج على الشرفات، يخرج الناس للاستسقاء: ربنا، ادلف الينا بمائك، واطفئ سعير حصى الشيطان وسد خوابيه، ربنا أنت مخلصنا ولك في عذاباتنا حكمة وفي طمأنينتنا حكمة، ربنا رد عنا شرّه واقتله يا رب..

بعيدا، بعيدا في الفضاء، يوغل طائر الرخ محلّقا بالرجل: كم طفلا قتلت؟ فيومئ ذاك، غير قادر على الكلام بعد أن اقتلع لسانه، بأنه لا يعرف ويتوسّل الطائر أن يحرره، ممعنا بالبكاء والنحيب.

ينقر الرخ عينه الأخرى ويحيله أعمى، ثم من علوّ، من فوق قمة الجبل الرهيب، يتركه في سماء سحرية لا تعرف غيما ولا جاذبية..

يبقى الرجل هناك معلقا إلى الأبد، في طريق النسور المرتحلة، ينهش كل واحد منها في جسده قليلا قبل أن يمضي في رحلته، وكلما فني الجسد، خرج جسد ثان، وإنما، دوما، من دون عينين ولا لسان..

في مكان بعيد، على الأرض، كانت الأمهات ما زلن يجمعن صور الأطفال من رؤوس الأشجار ومن قاع المحيط، فيما عرائس البحر كنّ يزرعن الفل بين الطحالب، وتذري الريح بغبار النارنج في كل مكان..