يرتبط السفر في تصوري بالمجتمع قبل المدينة المراد السفر إليها، فأجمل ما يمكننا فعله في السفر، وعلى نحو خاص، هو الاختلاط بالناس، والتفاعل معهم، ومن ثم كتابة سيرتهم قبل المكان، كي لا تتحول الكتابة إلى إعلان، بل إلى نوايا مرتبطة بالجذور والتحول، وما هو محقق على أرض الواقع، وهي أحوال المدن عامةً، وما جرى من تحديثات في تراثها، وما ترتب عليها... فكما يقول فيكتور هوجو: «المدينة في نهاية المطاف هي شخص».

كنت ضيفة على مدينة جدة التاريخية المشهورة بـ (البلد)، أو كما يقول البعض المدينة القديمة، فوجدتني أمام بيئة حضرية مبنية على نظامها الخاص، بيئة منذورة بالدهشة، وتأمل مستمر، لمبانٍ هندسية قديمة مبنية على أصولها الإسلامية المبكرة للمعمار، فهو بناء لا يشبه بيوت بلاد الشام ومدن الخليج ومدن المغرب... المعتمدة على الفناء العربي الداخلي لها في التهوية.

فهي بيوت برجية وعالية وبطوابق متعددة، والمدخل يبدو واحداً، لكنه يتفرع بشكل ذكي إلى غرف جانبية تصعد بسلالم شبه لولبية، حجرية مرجانية خاصة استُخرجت من البحر الأحمر المليء بالشعاب المرجانية، وكل سلم إلى مدخله الخاص، ليبدو بيتاً واحداً ومتعدداً، بممرات لا تختلط فيها الأجناس ببعضها، وهذا يعني أن معمار جدة، بُني على تقاليد أصيلة للمكان نفسه، وبالتالي لا شبيه له في مكان آخر.

كما تتجلى بيوت جدة بطابع تجاري، ففي أسفل كل بيت متجر للأسرة، يبيعون فيه البضائع، وهناك الطابع الديني، ففي كل بيت غرفة مخصصة يستأجرونها لبعض الحجيج الذين يمرون بجدة إلى باب مكة... بالإضافة إلى الطابع العائلي الخاص في النوافذ الخشبية المزخرفة والملونة، والمعروفة بالرواشن، الملائمة جداً للحر والرطوبة.

ومن بيت متولي الذي أصبح متحفاً، إلى بيت الشربتلي وبيت نصيف... وحوالي أكثر من 650 مبنى... سجلت لقائمة التراث العالمي للثقافة، «اليونسكو»، ومنذ 2014، أصبحت نابضة بالحياة، على الرغم من انهيار زوايا بعض المباني، لكن الإنقاذ والاشتغال على الترميم مستمر، لتصبح منطقة البلد بمبانيها، بأبوابها الحجرية، ومساجدها المبنية منذ بدايات الإسلام... متحفاً مفتوحاً في الهواء الطلق.

والبقاء للثقافة المعمارية، وروح أساسها ورسمها في تشكيل مصير الإنسان ومشروعه الفكري والسلوكي، وحاجاته الجمالية والإبداعية، انطلاقاً من تعدد البناء الداخلي كما هي (البلد)، ليعكس تعددها الثقافي الخارجي، لذا جدة غير.