درست خلال السنة الأولى لي في الجامعة مادة القانون حيث المحاضرات تتناول النظام القضائي في الولايات المتحدة. يرادف الاستعداد لامتحانات تلك المادة تمضية عطلات أسابيع طويلة في تنقيح المقالات، والتأكد من حفظ تواريخ وأسماء القضايا.

ويمكن تصور مدى دهشتي حين طلب منا الأستاذ في الامتحان النهائي كتابة نقد حول فصلٍ كان قد نشره حول النظام القضائي الأميركي في إحدى أبرز المجلات القانونية في العالم.

لقد طلب منا نحن، طلاب سنة أولى جامعية، الإشارة إلى كافة الأخطاء التي ارتكبها أستاذ المادة، المحامي الخبير في المجال، في موضوع نص هو مؤلفه. وقد رافق طلبه تفكيري بعد انتهاء الفصل بمدة، ليس بسبب نهجه غير التقليدي في التعليم، بل لما دفعني إلى التأمل بثقافة الخطابة والمحاججة التي نفتقر إليها في مدارسنا الثانوية وأنظمتنا التعليمية.

ولا تزال تلك الأنظمة حتى يومنا هذا، على امتداد مراحلها الابتدائية والثانوية، ترتكز على طريقة نقل معرفة أحادية الاتجاه، حيث يعمد الأستاذ إلى تمرير المعلومات للطلاب، بعيداً عن مبدأ تبادل الأفكار والآراء.

وعليه، فإنه يتم تلقين التلاميذ بما يجب أن يفكروا لا كيف يجب أن يفكروا، سيما في المواد المتعلقة بالتربية المدنية والتاريخ والقضايا المثيرة للجدل. وهكذا يصار إلى كبت اهتمامات الطالب بالدخول في نقاشات، فلا يعود يرى أهمية صياغة الآراء الأصلية المدروسة ومشاركتها.

لم تعد «المدرسة» بوصفها المؤسسة، ولا «الأستاذ» باعتباره المعلم، المصدر الوحيد للمعرفة التي يحظى بها طلاب هذا العصر الرقمي. وبمقدور الطلاب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الوصول إلى كمّ من المعلومات عبر الإنترنت، والتعرف إلى مصادر وقضايا وآراء لامحدودة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي.

إذا لم يكتسب الطالب مهارات النقاش والتفكير التحليلي الضرورية، سيكون من السهل وقوعه فريسة المعلومات المغلوطة والأفكار الدعائية.

ولا بد هنا من وضع منهج تعليمي قائم على النقاش، والعمل على تطبيقه في أوساط الطلاب في المرحلتين المتوسطة والثانوية، بهدف التدريب على كيفية مناقشة القضايا، وتوقع النقاشات المضادة، وتقييم نقاط القوة والتعرف إلى مكامن الضعف المبدئية للآراء المعارضة.

ومن شأن إطار العمل الذي يركز على فن الجدل والتخاطب أن يعلّم الطلاب التفكير من عدة زوايا مما يزيد بدوره مستوى مشاعر التسامح، ويفضي إلى تطوير نقاشات متينة قائمة على الحجة بغض النظر عن نوع القضية موضوع النقاش والحوار داخل البيئة الصفية وخارجها.

ولا يسعني في هذا المجال أن أستعرض عدد المرات التي خالفت فيها أساتذتي الرأي خلال سنوات التعليم الثانوي، وامتنعت عن البوح برأي بديل عن المعلومات المكتوبة على اللوح الأسود، لأنني كنت أخشى ببساطة من أن أفهم خطاً بأني أوجه انتقاداً مباشراً للأستاذ نفسه.

إن ما تحتاج إليه مناهجنا التعليمية بشدة هو تعزيز فضول الطالب الفكري، وتهيئة البيئة المناسبة لطرح النقاشات والحوارات البناءة. يجب أن يمنح الطلاب المساحة الكافية لمناقشة الموضوعات التي تهمهم كجيل شاب، والتعلم في الوقت عينه كيفية إخضاع القضايا لمنطق العقل وفهم حيثياتها على المستويين الوطني والعالمي.

ولعل الطبيعة المتصلبة لطريقة نقل المعلومات هرمياً في مدارسنا تنبع من المفاهيم التقليدية المنوطة بمهنة التعليم، إلا أن تحفيز الطلاب على مناقشة ومخالفة المعلومات المطروحة في الصف لا يقوض بأي حال من الأحوال مصداقية مناهج التعليم لدينا، ولا ينتقص من دور الأستاذ واحترامه كمعلم.

بل إنه يتيح للطلاب ببساطة أن يمارسوا التقنيات والأساليب الخطابية الضرورية التي تسمح بالتوصل إلى قرارات مدروسة قائمة على المعلومات وتجعل منهم أفراد مجتمع مسؤولين.