كل الكتب العلمية والفكرية القديمة تحمل في بدايتها تمهيداً أو مقدمة رصينة من المؤلف يُهيئ قارئه بها قبل الولوج به إلى عالمه للتفاعل مع ما كتب، انتقلت هذه العادة إلى الروايات الكلاسيكية التي كان التقديم في مطلعها ذريعة لما سيحدث في الداخل، أو ديباجة فاتنة...

لكن مجمل الروايات الحديثة أخذت منهجاً مغايراً، فلم تعد تعنى بالمقدمة ولا بالخاتمة، فيهوّنَ منها أغلب الرواة الجدد، ويدخل مباشرة في السرد، بعد أن بات يعدها بلا أهمية، فما جدوى السرد إذاً أمام الافتتاحية التي تحمل أقوالاً مأثورة وحِكماً وأبياتاً أو تعريفاً... فالسرد هو الأهم في إفصاحه عن كل شيء. بالطبع لا يوجد في ذلك قانون أو نظرية، لكنها الموجة الحديثة في الأسلوب والطرح، فأخذ الحداثيون من الأدباء نحو التجديد والتغيير.



لا شك أن المقدمة لم تعد مقتصرة على الكتب البحثية أو العلمية أو الأدبية، فهناك الاستهلال المعروف لبعض الأفلام السينمائية الكلاسيكية أو المسرحيات أو فن الدراما، مروراً ببعض المقدمات التي كانت تُعد حيازة، أي وضع يده على ما يملكه بِنيّة الملكية، فلا يستولي عليها أحد، ويصبح بالتالي قانونياً.

لكن أحببتُ ذكر بعض المقدمات المختلفة، كمقدمة ابن خلدون الذي وضعها لكتابه (العِبَر)، لتأخذ تلك المقدمة بُعداً موسوعياً أكبر وتنتهي إلى كتاب منفصل بحد ذاته، وهي الآن مقدمة برتبة مرجع، مروراً إلى مقدمات أخرى لروايات كلاسيكية أعدها مذهلة كمقدمة رواية (الأخوة كارامازوف) التي وضعها مؤلفها الروسي دوستويفسكي بنفسه، تحت عنوان «إلى القارئ» يتحدث عن شخوصه وما فيهم من ارتباك نفسي وروحي، وكأنه يشرح ما بهم ويحرق علينا لذة المفاجآت في الداخل، ويحث القارئ لكونه نافذ البصيرة على الانتباه فلا يُحمّله قراءة ثانية، وأنه في وسعه رمي الكتاب منذ قراءته الصفحات الأولى إن لم تعجبه.. ومع ذلك اعتبر النقاد روايته تلك من أجود ما أخرجه الأدب للعالم.



ونشهد كذلك للكاتب البريطاني اللغوي توكلين مؤلف «سيد الخواتم» الخيالية، ليكتب لها مقدمة أيضاً خيالية ومميزة، اعتبرها النقاد أنها الطليعة ولا يجب إهمالها، لما فيها من توضيح لحكاية الأجناس البشرية القزمة التي تعود إلى زمن سحيق لا يعرفه، لكنه يؤكد بأنه يعرف العصور التالية لهم في أنها عصر الشمس الثالث، إلا ثلاثة من هؤلاء الأقزام وهم أبطاله الذين اختبأوا خلف الأودية... لينفذ بنا من خلال فاتحته الخيالية تلك لتتناغم مع السرد.



أما المبدع والجميل ماركيز فإنه من شدة إعجابه بالرواية اليابانية «الجميلات النائمة»، والتي لا تتعدى صفحاتها المائة، كتب مقدمة لها في أنه تمنى كتابتها هو لا مؤلفها الياباني ياسانوري كاواباتا، فانتشرت تلك الرواية من خلاله... ليأخذ التقديم أشكالاً في كونه انعكاساً لحجة، أو فاتحة أُريدَ لها تصديراً لواجهة.