عندما قررت «الأنا» عدم الاتصال مع «نحن» لفترة من الوقت، طرحت سؤالاً مهماً:
هل أصبحت القدرة على الانعزال عن فوضى الجُموع مهارة بحد ذاتها؟
مشهد معتم بغرفة مغلقة، وستائر أرخت سدولها على زحف الألوان، ليصبح المشهد رمادياً، هذا المشهد كان يحكي العزلة باختصار - أو كما كان يوهمنا البعض بماهية العزلة - فكثيراً ما كان ينظر إليها أنها حالة متطرفة من الوحدة والغرق في دوامة «الأنا»، نحو ثقب أسود بدأ يتناسل بجنون في عقل مثقوب، تتسرب منه الرغبة في الالتحام مع طرف الحياة القصي.
ولكنها بريئة من كل ما سبق، فالعزلة فسحة سيريالية خارج حدود الكون، يلجأ إليها المتأملون للهرب من المعاناة الاجتماعية، هي نوع متمرد من الحرية، في مجتمع يعيش الغالبية فيه منقادي المشاعر وموجهي السلوك، هي مِنجلٌ يحصد الذبول المستشري في النفس، هي أرضٌ خصبة تنبت منها الأفكار والإنجازات العظيمة، هي مشروع له محفزات خاصة، ومناخ نفسي خاص، وقهوة خاصة، هي عالم كامل الأركان يسكنك، يعيد صياغة الأفكار، ليخرجها من مسارها الخاص إلى مسار جمعي تشاركي.
وعندما أحكمت العزلة وثاقها على حياتنا في زمن «كورونا»، وجدها البعض ثقيلة دم، وأما البعض الآخر فوجدها «الفردوس المفقود»، وتكيف بذكاء وتجاوز العوائق، واستثمر أفكاره في زمن تباطأ فيه التسارع، وأصبح الوقت فيه حراً للإنجاز، والحقيقة أن عالمنا لم يكن ليكون كما هو عليه الآن، لولا محبو العزلة، الذين سطروا إنجازات خالدة لن ينساها التاريخ.
إذاً.. هل العزلة مهارة؟
هي كذلك.. عندما تكون رأسمال صناعة الفرق وإحداث التغيير، حتى وإن لم نبرح غرفنا وبيوتنا، عندما تكون مِنحَة العطاء لا مِحنة التراخي، فهي «الهدوء المُنتِج» في زمن صخب الأحداث، بها لن يغفو الوقت على كتف التواني، ولن تهدأ عزيمة الوثوب نحو الضفة المشرقة.