زرت مئات المتاحف في العالم، ولم يخلُ طائر النسر من العرض فيها كلها، وفي أهم زاوية من كل متحف، نحتاً ورسماً. كانت النسور حاضرة في حضارات الشعوب أجمعين، من مدن جزيرة العرب إلى مصر وبلاد الرافدين والهند والمايا والإغريق وروما... كلها بلا استثناء، مهيبة وقوية بأجنحتها المحلقة في العلياء، وهي تخترق المُخيلة ضد النسيان، خاصة لمتتبعة مثلي لتاريخ العالم القديم. قرأت الكثير عنه، فكان المسؤول الأول عن الانتصار للحرية ضد الظلم، وأقول الحرية بمعانيها الأولى، ليقابله الإنسان بالانتصار له، ويبادله التقدير بأن خلده فناً بجناحيه، فلا انحناءة للنسر إلا في مخالبه الشجاعة، ومع ذلك لسعة رحمته لا يأكل سوى الجيف، لتخرج كل منحوتة قديمة في تلك المتاحف والكتب بقصة مختلفة، مع الثعبان، ومع الإنسان، والكائنات الأخرى، وأساطير مكتوبة عن بطولاته، كلها تتدرج من النخوة إلى الفتك.

ومنذ أيام رأيت فوق بوابة منزل بمنطقة الخوانيج بدبي، مجسماً ضخماً لنسرٍ منحوت بعناية فائقة، يحلق للتو، لحظة التحليق بارزة في التمثال وكأنه ينظر للشمس ويرتفع، منحوتة تُشعر من يراه، بأوان الشروع والتخطيط لأمر ما... إلى معرض للأثاث في شارع جميراً، يبيع مجسمات لنسور مجنحة تسند الكتب، كمنظر أو زخرفة. كما أذكر قبل عام ونصف، قرأت إعلان الشارقة للآثار عن منطقة مليحة، واكتشاف منحوتة لنسر كبير وبرأس أسد، وكأن وجوده سرمدي ومتصل إلى اليوم، منذ الحضارات الكبرى حين كان يمثل النسر معاني روحية للناس بروعة الحضور، إلى المحاربين بتفسير القوة والشجاعة والعزيمة، وللعاملين شعور الإتقان والحماية، وللفنانين الإلهام، وامتداداً خالداً...

ظل هاجس النسر بداخلي مقيماً منذ دروسي الجامعية، إلى قراءاتي ومشاهداتي فيما بعد، وكيف أصبح رمزاً للارتفاع وهو يلجأ إلى قمم الجبال ليضرب بألم وصبر منقاره الصخور وبشدة، ويزيل أظافره، والريش الزائد، يحتمل شهوراً، كي يتجدد وينمو مرة أخرى، فيطير هذه المرة من مبدأ روحاني، وإلا كيف تعلم الإنسان الأول الحكمة من النسر، من منظور القدرة والقوة وعزة النفس، في رحلته المثالية الجالبة للعاطفة والنبل والحيوية، وطريق الجهد، والنظر إلى الواقع بأنه خبرة مستمرة.