يُعدُّ أدب الرحلة من أعرق فنون الكتابة في الثقافة العالمية، وأسبقها في المعرفة الإنسانية. ولا غرو في ذلك؛ فإن الرحّالة الأُوَل جابوا أصقاع المعمور، وغير المعمور، وطافوا العالم سنين وشهوراً، ونقّبوا في البلاد، وشاهدوا الخلق والعباد، ليدونوا يومياتهم ويسجلوا انطباعاتهم، وينقلوا مشاهداتهم.

ولعل أقدم رحلة عرفها الإنسان هي رحلة المؤرخ الإغريقي «هيرودوت» (توفي حوالي 425 ق.م)، رحّالة قبل الميلاد، فرحلته أولى الرحلات، بلا تعسف وافتئات.

ولا ينبئك مثل كتابه، أو إن شئت رحلته، بأنه عانى كآبة ‌الأسفار، ومُعاقَرة السِّفارِ، وعانى الفقر تارة، والقفر تارة، فيصبح وفراشُه المَدَرُ، ويمسي ووسادهُ الحَجَرُ!

وكأن لسان حاله يقول:

العيش نوم والمنيّة يقظة... والمرء بينهما خيال ساري

فاقضوا مآربكم عجالاً إنما... أعماركم سفر من ‌الأسفار

فلا جرم أن كانت حياته كلها سفراً، فركب المتوسط، وجال في الأصقاع المحيطة به، وانساح في شعاب مصر، ليصل شلال النيل الأول جنوباً، والبحر الأسود شمالاً، فيقص آثار شعوب بادتْ، وحضارات ومدنيات مادت، ثم يمضي متعرفاً على معابد الفينيقيين، ومعالم فلسطين، ويزور مواقع المعارك في منطقة دلتا النيل، ويزور بابل من أرض الرافدين، ومدينة برقة الليبيين، ويتفقد المعابد في طيبة، ويحصي ما حوته معابد دلفي من الكنوز والتحف العجيبة.

وكان أبو التاريخ، كما سماه شيشرون خطيب روما، قد شُغِفَ باستقصاء أحوال الأمم وتَنطُّس أخبارها، وحقيقة ما جرى لها، وتدوين كل ذلك في رحلته التي سماها «تاريخ هيرودوت». ويحسب لأبي التاريخ أنه دوّن ما عاصره من نشاطات فكرية، وصراعات إنسانية، متقصياً الأحداث الجسام، والخطوب العظام، التي حملت دول الإغريق على الاتحاد والالتئام.

إن العوالم التي استوعبتها رحلة هيرودوت عوالم كبيرة، وأخبارها غريبة، وأطرافها متشعبة المسالك، ونواحيها متعددة الممالك.