يرجع السبب في خطأ الشعراء والكتاب بالمعنى إلى الجهل بالأحوال، والغفلة عما ينبغي أن يقال، فالغلط يتولد من الكلام الذي يلفظه الشاعر أو الكاتب على جهة سبق القلم أو اللسان؛ إلى الشيء الذي لا يريده الإنسان.
لذلك قالوا: هنيئاً لمن لم يتكلم إلا بعد علم، ولم يخاطِبْ إلا بعد فهم وحلم، فإنه لا شك سينجو من الوقوع فيما يسبب الثلب والذم. ولا سبيل إلى توقي ذلك إلا بمطالعة أقوال من استحسن الناس أقوالهم، ورضي الناس أحوالهم.
حُكي عن المبرد؛ وهو من أكبر علماء العربية وأفخمهم شأناً، وصاحب كتاب الكامل، أنه قال: «لا أحتاج إلى وصف نفسي لعلم الناس بي؛ إنه ليس أحد من الخافقين يختلج في نفسه مسألة مشكلة إلا لقيني بها، وأعدّني لها، فأنا عالم ومتعلم وحافظ ودارس، لا يخفى عليّ مشتبه من الشّعر، والنّحو، والكلام المنثور، والخطب والرسائل، ولربما احتجت إلى اعتذار من فلتة أو التماس حاجة، فأجعل المعنى الذي أقصده نصب عيني، ثم لا أجد سبيلاً إلى التعبير عنه بيد ولا لسان.
وبلغني أنّ عبيد الله بن سليمان ذكرني بجميل، فحاولت أن أكتب إليه رقعة أشكره فيها، وأعرض ببعض أموري؛ فأتعبت نفسي يوماً في ذلك، فلم أقدر على ما أرتضيه منها، وكنت أحاول الإفصاح عمّا في ضميري، فينصرف لساني إلى غيره. ولذلك قيل: زيادة المنطق على الأدب خُدعة، وزيادة الأدب على المنطق هجنة».
وفي هذا قال ابن الأثير (ت 637هـ) -صناعة المنظوم-: «أيها المنتصب لهذه الصناعة، يجب عليك إذا أردت أن تؤلف شيئاً من الكلام، منثوراً كان أو منظوماً، أن تأخذ من نفسك، ساعة نشاطك وفراغ بالك، وإجابتها لك، فإن قليل تلك الساعة أجدى عليك بما يعطيك يومك بالكد والمطاولة. وإياك والتوعر فإنه يسلمك إلى التعقيد، وهو الذي يستهلك معانيك». ولقد أصاب ابن الأثير المَحَزّ، فالمعنى هو عماد اللفظ، واللفظ هو زينة المعنى. والمعاني بمنزلة الأرواح، والألفاظ بمنزلة الأجساد.