تعددت مواهب الإمام ابن خلدون العلمية (732 - 808 هـ = 1332 - 1406 م)، وتنوعت مواهبه المعرفية؛ من فقه، ولغة، وأدب، وحديث، وأصول، وتاريخ، وعلم اجتماع.. !
غير أن اهتمامه الكبير ظهر في العلمين الأخيرين؛ فاشتهر بهما، وألف (العبر وديوان المبتدأ والخبر)، وكتب له المقدمة فصارت أصلاً من أصول علم الاجتماع، وكتب الله لها النجاح والقبول أكثر من الكتاب نفسه.
غير أن ثمّ جانباً عند ابن خلدون لا يزالُ غامضاً؛ يحتاج إلى شيء من البحث والدراسة والكشف.
إنه الجانب النقدي؛ فقد كان لابن خلدون موقف متفرد من قضايا الشعر والنثر، ما أظهره ناقداً متميزاً، ولعله يكون به من أكبر نقاد الأدب في تاريخنا النقدي والأدبي.
وأهم القضايا التي أبدى رأيه فيها؛ قضية الفصل بين الشعر والدين، وقضية عدم الإجادة في المنظوم والمنثور معاً إلا للأقل، وقضية الإطار الشعري، ومكانة الشعر وخصائصه، وصناعة الشعر، وغيرها من القضايا الأدبية.
ويلاحظُ أن الشعر استولى على غالب اهتماماته، ولا غرو في ذلك، فقد كان شاعراً مجيداً، وناثراً مترسلاً.
فقد ترك لنا في نقد الشعر نظرات ثاقبة، ظهرت في الحديث عنه، وعن حده، وشروط نظمه، وخصائصه ومكانته.
فالشعر عنده: «الكلام البليغ المبني على الاستعارة، والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة». فالشعر عنده؛ الوزن والقافية، والكلام البليغ، وفوق ذلك كله؛ الاستعارات.
وشرط الاستعارات ما يليق منها بالمعاني، أي ما يُقارب فيها الحقيقة، كقول عنترة في وصف فرسه:
(فازورَّ عَن وَقْعِ القَنا بلبَانِهِ... وشَكَا إليَّ بِعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ)
أما الاستعارات المُباعدة للْحقيقة، مثل قول المُثَقِّبِ في وصف ناقته:
(تَقُولُ وَقَدَ دَرَأتُ لَهَا وَضِينى... أهَذَا دينُهُ أبَداً وَدِيني)
(أكُلَّ الدَّهْرِ حِلُّ وارتِحَالٌ... أمَا يُبْقي عَلَيْهِ وَلَا يَقِيني؟ !)
وإنما أراد الشاعر أن الناقة لو تكلمت لأعربت عن شكواها بمثل هذا القول.