في عالمنا الموسيقي الواسع الشعور، شرقاً وغرباً، نجد الاستلهام فيه سفر مستمر، كالنور الذي يتعدى مبدعه لينير ما حوله، فلا فضل للشرق على الغرب، ولا للغرب على الشرق، فكلاهما وعبر تاريخهما الطويل يستلهمان من بعضهما البعض، وبالأخص في المجال الإبداعي من فن وأدب.

فحين أطلق الموسيقي الروسي كورساكوف سمفونيته المذهلة شهرزاد في القرن التاسع عشر، كانت خير دليل على استلهامه قصص ألف ليلة وليلة، بألحانها المعبرة عن خيال الأجواء العربية في العصور الوسطى، لتتخلل السمفونية لحناً لصوت شهريار منتقم النساء، ولحناً لشهرزاد بوصفها ساردة عادلة، وآخر للشخصية الأسطورية سندباد البحار... كما أطلق كورساكوف سمفونية أخرى تسمى عنترة، مستلهمة من حياة عنترة بن شداد... وأعمال إبداعية كبرى للروس مقتبسة من قصص عربية، بوصفهم في تماس تاريخي جغرافي فِعلي وواقعي مع الشرق، ولا بد من اتصال ابداعي.

وإن سافرنا على متن الطيران الفرنسي، ونعلم جميعاً أن لديهم في ثقافتهم ضرورة إبراز الهوية الموسيقية الفرنسية.. تدخل الطائرة وتستمع إلى موسيقى شهيرة للموسيقي الفرنسي كلود ديبوسي، مقطوعة في غاية الشجن والجمال تسمى (ليلة في غرناطة)، وتُعزف على مقام الحجاز، وهو مقام من بين أعرق المقامات الشرقية، والذي يعود أصوله إلى أرض الحجاز، استلهمها ديبوسي أثناء مروره غرناطة البديعة وهو يبحث عن عنصر إبداعي عربي يمثل مجد المدينة.

حتى في شمال أوروبا البعيدة، وبالتحديد في الدول الإسكندنافية، والاستلهام العجيب بين عازف البيانو الإسكندنافي النرويجي إيدفارد جريج، مع صديقه النرويجي المسرحي الشهير إبسن، تعاونا وبلغتهما الأصلية النرويجية، وألفا معاً مسرحية بعنوان (بير جينت)، وهي مسرحية شعرية رومانسية درامية أبطالها عرب: بدءاً من فتاة تسمى عنيترة، ولعلها تصغير عنترة، وشخصية زعيم البدو، في صحراء شمال أفريقيا... وأمثلة عديدة عن الاستلهام الغربي لقصص عربية تعود للقرن التاسع عشر والعشرين، لا تسع المساحة لعرضها، أو للخوض حول هذا التماس الإبداعي الكبير بين الشرق والغرب، مقابل ما نسمعه حول التقليل من شأن العرب كمبدعين وملهمين، والحقيقة أننا نتمازج إبداعاً واستلهاماً فيما بيننا، كشعوب وثقافات.