يعد العلامة ابن خلدون- رحمه الله- عبقرية فذة، لا يتنازع في قدرها اثنان، ولا ينتطح فيها عنزان!

فإلى جانب كونه مؤرخاً وفيلسوفاً، ومفكراً مربياً حكيماً؛ كان الرجل شاعراً مجيداً، وناقداً نبيهاً.

ولعل النظر في آثاره وأعماله يفضي إلى تلك الحقيقة ويجليها.

وعلى قدر ما تميز به الرجل - في علم التاريخ - من تجديد وابتكار، على قدر ما تميز به في تجديد الأدب والنقد والشعر.

وقد ذكروا أنه نظم الشعر في صباه، وظل مواظباً على ذلك حتى منتهاه، وقد يُعزى اهتمامه بالنقد الأدبي إلى اهتمامه بمعرفة الكلام؛ منظومه ومنثوره، فهما مادة للعلوم والفنون، فالعلوم كلها تحتاج إلى الحجة والمنطق، ولا تأليف ولا تصنيف ما لم يمتلك العالم قدراً كبيراً من ذلك، ومن المسائل التي عالجها ابن خلدون في مقدمته الحفظ والرواية.

فقد أكد أهمية الدور المنوط بالحافظة في عملية الشعر والإبداع فيه، وركز على ضرورة إثراء الشاعر لذاكرته من خلال رفدهما؛ وقد قرن ابن خلدون الفحولة في الشعر والتصرف فيه بالقدرة على حفظ الأشعار وروايتها، فلا سبيل إلى توليد المعاني إلا بكثرة الألفاظ والمباني.

ولا يعني ذلك إهمال الخيال في العمل الشعري، بل يجب استثمار ذلك في التجديد والابتكار.

يقول ابن رشيق: «وليأخذ نفسه بحفظ الشعر والخبر، ومعرفة النسب؛ وأيام العرب؛ ليستعمل بعض ذلك فيما يريده من ذكر الآثار، وضرب الأمثال، وليعلق بنفسه بعد أنفاسهم، ويقوي طبعه بقوة طباعهم..» وقد بالغ القاضي الجرجاني في جعل الرواية والحفظ أحد الأسس الأربعة، التي تقوم عليها صنعة الشعر والإبداع الفني. ومع أن ابن خلدون ألح على الشعراء بحفظ أشعار السابقين، وفهم مناهج الماضين، إلا أنه حذرهم أن يكونوا ظلاً لهم، بل أرادهم أن يكونوا أصحاب إطار شعري كبير، ومخزون وفير، لأن تعدد قراءات الشاعر المختلفة ومحفوظاته المتعددة من الشعر، مضافاً إليها تأملاته وتصوراته الخاصة، تشكل في مجملها الثقافة الضرورية للشاعر المبدع.