لا شك أن نجد في أغلب بيئات العمل من يجتهد في عمله ومن لا يكترث به، ولكنني في أحد تجاربي الوظيفية مررت بشخصيات تآلفت على صفة واحدة أسميتها «العدوانية الوظيفية». لربما قد يظن البعض أنني أبالغ في ذلك، ولكني أرجو أن تقرؤوا المقال بتمعن قبل أن تقوموا بالحكم عليه من بدايته.
منذ دخولي إلى بيئة العمل هذه وبعد أن حاول الكثير منعي من دخولها وذلك بسبب سمعتها التي سبقتها بالعدوانية غير الصحية، قررت أن أخوض التجربة وكنت أكرر في ذهني بأنه «يجب عليّ عدم قياس تجارب الآخرين على تجربتي»، ومن هنا تبدأ الأحداث التي لم أتوقعها البتة. فلم أتوقع في يوم من الأيام أن أرى موظفاً طبيعياً كان يتم اضطهاده من مسؤوله لأي سببٍ كان، وهو يقوم بممارسة الاضطهاد نفسه اليوم على الموظفين التابعين لقسمه بعد تغيير مديره، ويُرجع ذلك إلى أنه عاش في بيئة عمل قاسية ويجب على غيره أن يعيش تجربة مماثلة حتى يصبح «مكافحاً» على حد ظنه. وغيره من الذين كان يتم إساءة المعاملة لهم وكانوا يعبرون عن مدى استيائهم بصوت عالٍ، وهم يقومون اليوم بممارسة الإساءات نفسها على من هم أدنى منهم بالدرجة الوظيفية.
في بداية الأمر كنت أتوقع أن هذه الإشكالية قد تكون تصرفاً شخصياً لا غير، فقمت بقراءة بعض الكتب في الموارد البشرية والتطوير المؤسسي لكي أتعلم وأحاول أن أقوم بتطوير بيئة العمل والنهوض بها وبإنتاجاتها، لأن من البديهي أننا نعمل جميعاً لخدمة مؤسسة واحدة ولسنا نخدم أشخاصاً معينين، لكنني ترددت بعد مدة قصيرة جداً عندما اكتشفت أن بيئة العمل تغزوها التصرفات الفردية غير الموزونة أبداً في كل الدرجات الوظيفية من أقصاها إلى أدناها، وأن الجميع يحاولون النهوض بأسمائهم لا بأعمالهم، وأن التميز الوظيفي يكمن بمدى قربك من المسؤول، وأن الاجتهاد والمثابرة في العمل سيجعلك في مصاف المتأخرين عن التميز لأن عملك سيكون باسم من يترأس قسمك من دون أن يعرف محتوى ما قمت به. وتتفاقم المشكلة في مثل بيئات العمل هذه، عندما تصبح ثقافة «العدوانية الوظيفية» منتشرة ومتجذرة والقوي هو الأكثر عدوانية وليس الأكثر اجتهاداً.
بعد هذه التجربة، راودتني الكثير من الأسئلة.. لماذا لا نقوم بتأهيل موظفين مختصين بتطوير بيئة العمل وتقييم أداء الموظفين بشكل فعلي وليس شكلياً؟ لماذا لا يقوم المسؤول بقياس مدى كفاءة المديرين الذين قام بتعيينهم من خلال الاطلاع على المجهود الذي يقومون به كأفراد وليس المحتوى الذي يصله من موظفي أقسامهم؟ مثل هذه التصرفات غير اللائقة لأي مؤسسة كانت، تساهم بشكل كبير في خلق تعاسة وظيفية لكل الموظفين، وتنفّر الكفاءات التي يمكن للمؤسسات الاستفادة منها بشكل كبير.