مع اقتراب نهاية هذا العام تمر في مخيلتي ذكريات وأحداث بدأت تسترخي على الأرائك، نافثةً ذلك الغبار الذي يعتليها بين حين وآخر، وعن تلك الخطابات التي أدرتها في عقلي، فكنت أنا القاضي، وأنا المجني عليه، وأنا الذي يعطي الحكم الأخير لتلك الحياة، في حين أن العالم يعمّه الهدوء والسكينة التامة، إلا أن الجلسة الأخيرة في عقلي ما زالت تقاوم ضجيج الحياة، وتضخ في أوردتها أكسجيناً يعيد الحياة لمن لا حياة له، أفكر دائماً في الحروب التي خضناها في عقولنا وقاومنا بها أنين الزمان، تعثرنا ونهضنا حتى رفعنا راية النصر، وكل هذا من دون أن يعلم أحد عن تلك الصراعات والاشتباكات التي ظلت تعاني منها الجيوش المشاركة في هذا الصراع الصامت. هذا العالم حملنا بين مزيج مختلط بين سواد وبياض ناصع، احترنا في أي اللونين نثبت به أقدامنا! كسوادٍ فاحم قاتم تسلل على أطراف نوافذنا وجعلنا نحتسي مرارة الألم والأسى، وبين بياض أمهق براق يأتي ليخرس ذلك السواد، ويخبره بأن الأمل ما زال موجوداً. على الرغم من معاكسة اللونين فإننا نعي بعد ذلك أن الليالي إذا عسعست فلا بد أن الأمل يشفي غليل تلك الأيام ويضمد تلك الندوب والجروح التي آذتنا في بعض المرات، وجعلتنا نزداد قوة وإصراراً وعزيمة حتى لا نصبح عالقين في سكة الجبناء. 

عامٌ مررنا به بأيام باتت عالقة في ذاكرتنا، فكم جلسةٍ مع شخص عابر تعرفنا من خلالها إلى جوانبنا المخفية! وكم من ابتسامة جبرت خواطرنا! وكم بقينا عالقين حول حافة جوف عميق حتى أحسسنا أنها نهاية العالم، إلا أن هناك من تشبث بأيادينا وهمس لنا قائلاً: أرجوكم لا تستسلموا.. شقوا عباب التيه حتى تصلوا إلى بر الأمان. مررنا بأيام غلبتنا بها الحياة في كل مرة نظن أننا قادرون على مواجهتها، وكأنها تنزع آخر حبل نتشبث به إلى أن تنزف أيادينا دماً، تضع لنا مطبات في كل مرحلة في تلك الرحلة، تنهي دروباً كنا نمهدها بشق الأنفس، أو تبقى تنزف بصمت في داخلنا إلى أن تتعافى ونصل إلى مرحلة النضوج، حينها ندرك أنه لا شيء يستنزف قوتنا الداخلية سوى الحوارات الذهنية التي نناقشها في ذلك العقل الذي قتل على يد التساؤلات التي لا يوجد لها أجوبة إلى الآن!

عامٌ أحسست من خلاله أنني جندي لديه رصاصة أخيرة في زناده، فإما أن ينجو بها، أو يستسلم في أرض المعركة، في حين أن الجميع يحتسي قهوته السوداء، إلا أنني أحاول أن أخفي ذلك الضعف الذي أصابني بغتة، وكأنني أكتم تلك الانهيارات التي أصابتي في تلك الفترة من الزمن، وأقاوم دمعي حتى لا يرى الآخرون نقطة ضعفي، وكأنني أؤجل موعد هطول تلك الدموع إلى وقت آخر، وما زلت أحاول الاستمرار بالتجديف لأخرج من ذلك البحر ومعي حصيلة لا تقدر بثمن. عامٌ لا تشبه تفاصيله أي عام، لأنه أخذني إلى مبتغاي.. تعلمت من خلاله كيف أطبطب على أحلامي المنتظرة، وكيف أزين صفحتي البيضاء التي رسم الزمان تفاصيلها، إلا أن جزءاً منها بات ناقصاً إلى أن تكتمل اللوحة في العام المقبل.