في مدينة «تحترق، هل تختزن النار رفاة ساكنيها، وتمد الرماد إلى ريح عابرة في دروب الوطن؟.. وكيف تطاول شجرة النار أشجار الحياة في حديقة الموت والمأساة؟.. كيف تقوى ريشة لاهبة على كل هذا الحريق؟ وكيف يقوى قلب مفجوع، على كل هذا النشيج، حين تقطر الروح دماً، والعين دماً،
وحين ترسم أصابع الحنين واللهفة من نافذة الغربة ومن شرفتها العمياء، نشهد البلاد وهي تئن في موت جماعي، أو تنهض في حلم جماعي على عتبات المقابر، وفي اللمسات الأولى للوحة «لم تكتمل.. أسئلة تحاول أن تتبرأ من الإجابات المعدة سلفاً، وأحلام تحاول التبرؤ من مرارة واقع أعد سلفاً، وخطوات نحو الحياة تحاول النجاة من أفخاخ الموت التي أعدت سلفاً.
إنها أسئلة وعذابات ودموع سعاد العطار، في وطنها وفي غربتها، في فقدها وفي عطائها، تهمي من عيون لم تقو السنين على بريقها، حين تختلط مع حروفها العميقة الهادئة وهي تتحدث عن أعمالها ولوحاتها وعن أيامها النائسة بين عطاء لم يتوقف ينبوعه وتوق لم تخمد جذوته.
وفي أمسية جمعتني والناقد محمد الجزائري مع الفنانة سعاد العطار، في أحد قصور الرويال ميراج المشيدة على الطراز المغربي، وبعد مسيرة من رائحة النراجيل المعشقة مع الأقواس المغربية والزخارف التي تطرز الهواء والحجر، أخذنا الكلام في ردهات ألف ليلة وليلتان على حد تعبير الجزائري، ومع حكايا سعاد العطار عن ألوانها وأحزانها، عن مكابداتها وإشراقاتها وهي تسترد تاريخها لوحة لوحة ودمعة دمعة.
أول الألق
ابتدأت العطار مسيرتها الفنية، منذ طفولتها حيث برزت مهاراتها وإمكاناتها الاستثنائية التي صقلتها بالدراسة والدربة الدائمة مشفوعة بموهبة ومخيلة ميزتها عن أغلب مجايليها من الفنانين والمبدعين، وكان أول معارضها في عمر «16» سنة، جعلها من النساء الرائدات في العراق اللواتي لم يتوقف عطاؤهن، حتى أصبحت من العلامات الفارقة على مستوى المشهد التشكيلي العربي.
أقامت العطار العديد من المعارض الفردية في عواصم عديدة من العالم، في دبي، بيروت، الكويت، باريس، لندن، أميركا، وغيرها من المعارض التي أقامتها في بغداد، قبل أن تغادرها عام 1976، لتستقر في لندن متابعة عطاءها الإبداعي، وقد تكحّل هذه المرّة برماد الغربة الصعب، واكتسب أبعاداً أخرى، وعمقاً إنسانياً جديداً.
وكانت العطار قد تخرجت في كلية البنات 1964، وقبل هذا حصلت على دبلوم رسم من كاليفورنيا عام 1960، وتابعت دراسة الغرافيك لمدة خمس سنوات في لندن، وعبر مسيرتها الفنية حصلت على العديد من الجوائز منها «ميدالية ذهبية» في فن الحفر من القاهرة وجائزة معرض بيكاسو ـ ميرو الذي أقيم في بغداد، وجائزة تقديرية من البرازيل، وجائزة تقديرية من بينالي مالطا.
قصر الأسود والفاجعة
ذكريات بعيدة في العراق أرض الأساطير، تمتد إلى (قصر الأسود) قصر أجدادها، الذي كان يحرسه أسدان منحوتان بمهابة وروعة واللذان لم يمنعا صدّام حسين من احتلاله وتحويله إلى قصر لفخامته، أو قصر الورد، كما كان يطلق عليه، لكثرة الورود التي فيه وللروائح التي تفوح منه، والتي لم تمنع الجنود الأميركان من تحويله إلى مقر لهم.
ومن قصر الورد إلى دارها في المنصور ببغداد والتي لم تتمكن اللوحات من منع الصاروخ الأميركي عام 1993 أن يسقط في حديقته وأن يقتل شقيقتها التشكيلية المبدعة ليلى العطار وزوجها، في ذلك الحادث المأساوي، الذي أسفر بعد هذا عن إصابة ابنة اختها بالعمى ووالدتها بالشلل. إنها المصائب التي تتشظّى الروح، وينفرط حبل الدموع وتلتهب اليد الناعمة بحريق طال أقاصي الخلايا وتجذّر في الضلوع، إنها المأساة التي لا يمكن أن تفترق عنها العطار وهي تغمس ريشتها في الحرائق واللهب الدامي.
إذاً ما تنتجه العطار هو نزيف دائم، فاض على قماش الرسم، على الأوراق، وفي تقاويم الأيام التي توقفت على تاريخ 1993، ميقات الإدانة والحزن والقتل اليومي في العراق.والحزن هنا لم يكن عائقاً والموت لم يكن شخصياً، فالعطار أمينة لرسالتها ولصيقة بالمعنى الإنساني والتجربة الكونية التي تحتّم عليها أن تطل من شرفة الموت على حدائق الحياة لترسم المعنى من جديد، ولتعمّق الحزن من جديد، ولتندغم في نبض الأحبّة الذين فقدتهم من جديد.
مقاربة إبداعية
على امتداد تجربتها حاولت العطّار أن تبرز رؤيتها الفنية من خلال مقاربتها الإبداعية لأغلب التفصيلات الحياتية، بدءاً من استلهام المفردات التراثية كالشبابيك البغدادية والمنمنمات الواسطية وصولاً إلى التجريب في المدارس المعاصرة والاطلاع على روّادها والتعمق في أعمالهم وانتهاءً باعتمادها على الخزّان الإبداعي الذي تمتلكه والمفردات الجمالية التي اصطفتها خلال تجربتها الطويلة، ذلك البركان اللوني الذي تفجّر وأفاض على المشهد الإبداعي بتلويناته وتنويعاته،
وبمقاربتها للمقطع الشعري الذي كانت تنتقيه بنفسها والذي تحاول صياغته على حدّ تعبيرها كنصّ بصري موازٍ وليس صياغة شرح للنص الشعري كما اشتغل غيرها من الفنانين، وبهذا قال الشاعر نزار في وصفه لتجربة فرج الشعري بالتصويري والذي قامت به العطار في سياق تجربتها، ذلك التقديم الذي تعتز به، من شاعر قدم في العبارة كما قدمت في اللون:
«في العالم العربي، استطاع الشعر أن يفوز بأكثر من ميدالية ذهبية وأن يكون مالئ الدنيا وشاغل الناس، لأنه كان يخاطب الأذن العربية والوجدان العربي، بغير تراجمة ولا وسطاء.. ويبدو أن فنانتنا الرائدة سعاد العطار قررت أن تنهي غربة الشعر والرسم وأن تعيدهما إلى جذورهما الأولى وطفولتهما الخضراء «فحين تحاول أن تطعم لوحاتها بخيوط من شعرنا العربي، فإنها بذلك تكسر الحواجز المصطنعة بين الكلمة المكتوبة والكلمة المرسومة.
وتتيح للمثقف العربي أن يسمع القصيدة بعينين»، ذلك بعض اشتغالات العطار، التي قدمت فيما قدمت الحالات الإنسانية والثنائيات التي تجمع الرجل والمرأة، في تصوير حلمي، حيث يشع الضوء من أعماق الكائن البشري في عناق لا سبيل إلى تفريقه، متوحدين في الحب والحلم وكأنهما على أهبة الانعتاق من جسديهما والذوبان في نسيج اللون.
وبالعودة إلى حديث حرائق اللون والمدن، تستحضر العطار معرضها الذي أقيم في متحف «ليتون هاوس» في غرب لندن، والذي جاء ليصور فجائع بغداد وما تتعرض له من دمار، حيث قدمت خلاصة تجربتها الفنية لتسكب نشيجها، مؤججة بلوحاتها مشاعر كل من شاهد تلك اللوحات الست التي حفلت بروعة التصوير
وهول الكوارث التي ينوء العراق تحت ثقلها وقد تحولت إلى إيقاع يومي للموت الذي يتجول بحرية في الحارات القديمة وفي القرى التي رسمتها والأساطير التي تربت عليها، وفي السرقات والنهب لموروث العراق الإبداعي والأعمال الفنية والآثار التي نهبت من المتاحف والمنازل.
إنه بركان من اللون يرسم سيرة العراق، في مزج بين قوة التعبير وسطوة التأثير والمكابدة التي عانتها الفنانة وهي تستحضر تلك الويلات لثلاث سنين متواصلة استغرقتها كي تنجز فصلا من فصول الموت بريشة اعتادت أن ترصد الحياة بغناها وتنوعها.
سرقات لكنوز الروح
حكاية أخرى ترويها العطار عن لوحاتها التي تركتها في بغداد بعد أن خزنتها في بيت لها، حين سمعت ذات يوم إحدى اللوحات التي تحمل توقيعها، تتصدر إحدى «الغاليريهات» في باريس وما كان منها إلا أن توجهت إلى باريس لترى هذه اللوحة والتي كانت قد رسمتها حوالي 1972، وهي من ضمن المجموعة التي تركتها في بغداد، حينها علمت أن لوحاتها المخزنة هناك قد سرقت.
عادت أدراجها وقد استبد بها الهلع، وحين وصولها روت لزوجها ما حدث، فأخبرها ما كان يخفيه عنها لفترة طويلة، بأن منزلهما قد تعرض للسرقة وأن الحارس قد قتل وتمت سرقة سند الدار وتزويره ومن ثم بيعه. إذاً هي مصيبة أخرى تضاف إلى تقويم المصائب، والحبل على الغارب والحكاية لم تنته بعد!
فبعد فترة قصيرة تتلقى اتصالاً من منظمي مزاد كريستي العالمي للفنون والذي أقيم في دبي مؤخراً وملخص المكالمة بأنهم أبلغوها بأن لوحة تحمل توقيعها وتعود إلى فترة السبعينات وهي تمثل «بورتريها» رسمته الفنانة لأختها الشهيدة «ليلى» وأدركت العطار أن هناك ثمة لبس في الموضوع، حتى تبينت أن اللوحة هي من ضمن أعمالها المسروقة،
وأنها لا تمثل رسما لاختها، بل هي لإحدى الطالبات اللواتي كانت قد رسمتهن من قبل وبعد العديد من المحاولات مع القائمين على «كريستي» لم تتمكن من إيقاف بيع اللوحة أو من تغيير الشرح المرفق معها على أقل تقدير.
إنها البلاد التي تحتفي بمبدعيها.. الوردة مقابل النار، والقصيدة مقابل الطلقة، والمنفى مقابل الحلم.
إنها سيرة مبدعة لم تصافح العالم إلا من شبابيك لوحاتها ولم يصافحها العالم إلا بسهامه العمياء.
إنها السيرة التي نكتبها بوجع ونرويها بمرارة رغم أن سعادة العطار لا تزال بكامل عطائها وعشقها للحياة وتعلقها بالحلم.
إسماعيل الرفاعي