الكتابة في موضوع «الهولوكوست»، وما جرى لليهود على يد النازيين، خلال الحرب العالمية الثانية، أمر شائك، وبالغ الحساسية، نظراً لحساسية حاملي لواءه منذ عقود، تمكنوا خلالها من رفعه إلى منزلة «القداسة!!»، واعتبروا من يخالفهم الرأي فيه، مرتكبا جريمة تستوجب العقاب. وهذا ما أثبتته تصريحات للأسقف البريطاني ريتشارد وليامسون قبل أسابيع، قال فيها: إن هناك مبالغة كبيرة في عدد ضحايا اليهود الذين ماتوا في المحرقة النازية، خلال الحرب العالمية الثانية، وإن الأدلة التاريخية تفيد بأن عدد الضحايا لم يتجاوز 300 ألف يهودي، وليس ستة ملايين، كما هو شائع، وإنه لم يُقتل يهودي واحد بما يسمى غرف الغاز.

ليس غرضي من الكتابة، نفي أو تأكيد وقوع «الهولوكوست»، ولا كم عدد اليهود الذين قتلوا، سواء ستة ملايين أو ستمائة شخص، فهذا ليس من اختصاصي، وإنما الغرض هو مدى الحق في حرية التعبير عن الرأي عندما يتعلق الأمر بالحديث عن «الهولوكوست» في الغرب، والولايات المتحدة خصوصاً. حيث حرية التعبير حق لكل فرد، يضمنه ويحميه القانون. حتى لأولئك الذين ينكرون وجود الله، وليس فقط وقوع المحرقة.

ما قاله الأسقف وليامسون أثار في الولايات المتحدة ضجة وردود فعل، أكثر من أي بلد في العالم، باستثناء إسرائيل، مع العلم أن الأميركيين، في أغلبيتهم الساحقة يعتبرون ما جرى لليهود في الحرب العالمية الثانية، وما جرى من إبادة هائلة لأقليات أوروبية، طوي الحديث عنها، وما جرى للسود في الولايات المتحدة (العبودية والرق)، كل هذه وغيرها، أحداث صارت من التاريخ، ولا يريد الأميركي أن يكون أسيراً لها، بل يصر في فلسفته على النظر والتطلع إلى الأمام والمستقبل.

لكن اليهود الأميركيين ومنظماتهم، كالمعتاد، أقاموا الدنيا، وبعثوا وفداً في مؤتمر المنظمات اليهودية الأميركية (أكثر من 60 شخصاً) التقى البابا في حاضرة الفاتيكان للتعبير عن الرفض لأي تشكيك في المحرقة اليهودية، والسعي لاعتبار من ينكر وقوع المحرقة جريمة يعاتب عليها القانون. وهو ما لم يستجب له البابا. وهو ما يرفضه الأميركيون بقوة، لأن حرية التعبير حق مقدس لا يمكن المساس به، مهما كان الموضوع محل الحديث. وأنه لكل فرد أن ينكر ما يريد، ويعترف بما يريد، وإن أية مطالبة تؤدي إلى انتهاك حرية التعبير هي الجريمة في حد ذاتها.

ومع ذلك، ترفض الأغلبية الساحقة من الأميركيين النازية، وما ارتكبته من جرائم بحق الكثير من الشعوب، وليس اليهود فقط، ولكن ذلك، لا يعني في اعتقاد هذه الأغلبية، اعتبار انكار المحرقة وغيرها من جرائم النازية جريمة، وأن بعض البلدان التي تعتبر الأفكار فعلاً إجرامياً، أمر يخصها، مع أنه أمر مرفوض مناقض لحرية التعبير.

ولا يخفي كثير من الأميركيين، أن موضوع «الهولوكوست»، والمحرقة النازية، موضوع لا يعنيهم كثيراً، ويرونه موضوعاً أوروبياً، لا أميركياً، وإن الاستمرار في المبالغة فيه، من شأنه أن يؤدي لنتائج عكسية، على المدى الطويل، وقد ظهر هذا من الجدل الذي دار في الكونغرس وخارجه حول إنشاء متحف «الهولوكوست» في واشنطن، قبل سنوات، إذ لقي معارضة من كثيرين، لأنه ما من أسباب حقيقية ومقنعة، تدعو لإقامة المتحف في واشنطن، ومع ذلك تمت إقامته.

وكان من المعارضين البارزين لإقامته، وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر وهو اليهودي الألماني الذي هاجر إلى الولايات المتحدة فتى يافعاً، لاعتقاده مثل غيره، إن الأصرار على التمادي في المبالغة ستكون له نتائج سلبية في المستقبل.