شهدت الساحة الصومالية مؤخراً تغيرات متسارعة باتجاه تبريد الأزمة، بدأت هذه التغيرات بخروج قوات الاحتلال الأثيوبي، تم انتخاب شيخ شريف أحمد رئيسا للبلاد، وأعقب ذلك اختيار عمر عبد الرشيد علي شاراماركي رئيسا للوزراء.
وقد أتم شاراماركي تشكيل الحكومة الصومالية، وتتكون من 36 وزيرا يمثلون معظم الاتجاهات السياسية والقبلية في البلاد. وكان من الممكن أن تكون هذه التشكيلة الوزارية حكومة وحدة وطنية لولا غياب ثلاث من أهم القوى السياسية والعسكرية المعارضة عنها. وتعكس التشكيلة طبيعة الخريطة السياسية الجديدة من حيث التحالفات والعداوات، حيث لم تخف المأزق الذي يواجه حكام مقديشيو الجدد، مع رفقاء السلاح الذين باعدت بينهم الخيارات.
متطلبات خارجية وداخلية
وتأتي هذه المتغيرات استجابة لمتطلبات خارجية وداخلية، دعت إليها مقتضيات محصلة السياسات الفاشلة التي أخضع لها الصومال على مدى العامين الماضيين وهذه المحصلة تمثلت في النتائج التالية :
أولا- فشل الاحتلال الأثيوبي منذ دخوله الصومال بنهاية العام 2006 في تحقيق الأهداف التي أناطته بها القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية التي شجعت أثيوبيا على ذلك. فقد أدى الاحتلال إلى مزيد من الفوضى في ظل اندلاع مقاومة عسكرية ضارية، مما ساعد على تقوية الإسلاميين على خلاف ما كانت تريد واشنطن.
ثانيا- ارتكاب قوات الاحتلال الأثيوبي جرائم في الصومال ترتقي إلى درجة جرائم الحرب. ومن ذلك ارتكاب المذابح بحق المدنيين، وإحراق وتدمير العديد من المساجد ، مما زاد من التفاف الشعب الصومالي حول حركات المقاومة، وهي حركات إسلامية، سعت أميركا وأثيوبيا من وراء الاحتلال العسكري القضاء عليها باعتبارها العدو المشترك.
ثالثا- تحقيق الإسلاميين لنجاحات عسكرية ارهقت الاحتلال الأثيوبي واجهضت مشروعيته ووجوده، فقد استطاع الإسلاميون بسط سيطرتهم على مناطق كثيرة، وتمكنوا من حصار الاحتلال والحكومة المتعاونة برئاسة عبد الله يوسف معه في نطاق ضيق و داخل العاصمة مقديشيو وبعض المدن. وهذا النجاح أعطى الإسلاميين شرعية شعبية وإقليمية، وفي مقابل فشل الحكومة، مما أثار المخاوف الأميركية.
رابعا- استفحال مشكلة القرصنة البحرية بفعل انهيار الدولة في الصومال، ورغبة القوى الدولية مواجهة هذه المشكلة بحكومة قوية، ونظرا لتمتع الإسلاميين بالقبول الشعبي المسلح بالقوة العسكرية، فهم قادرون على حل هذه المشكلة في ظل قدرتهم على فرض الأمن بالبلاد.
خامسا- لا ينفصل عن الأسباب السابقة وجود رغبة دولية، وبالأحرى أميركية في عزل القوى الإسلامية المتشددة مقابل استقطاب قطاعات أخرى من الإسلاميين ممن يمكن تصنيفهم في خانة المعتدلين، وذلك بهدف كبح قوة المتشددين المرفوضين أميركيا أو توريطهم جميعا في اقتتال دام على غرار اقتتال المجاهدين الافغان أو استخدام فريق ضد آخر على غرار تجربة الصحوات العراقية التي قاتلت ضد تنظيم القاعدة. وقد ألمحت إلى ذلك قيادات في الحركات الإسلامية المعارضة للنظام الجديد.
تحديات وانقسامات
ولعل السبب الأخير هو ما حفز كثيرا من القوى الصومالية المعارضة إلى استقبال النظام الجديد ورموزه بنوع من الشك والسلاح، ففور وصول الرئيس الجديد شيخ شريف أحمد إلى القصر الرئاسي، تم قصفه بمدافع الهاون، بل ان القذائف وصلت إلى محيط القصر، تعبيرا عن قوتها وأعلانا لرفضها. ثم اندلعت معارك دموية بين الطرفين خلال الايام الماضية سقط فيها عشرات القتلى والجرحى.
وتتمثل القوى الرافضة للنظام الجديد في عدة تنظيمات مسلحة، أهمها:
(1) تحالف إعادة تحرير الصومال ـ جناح اسمرا (أريتريا) بقيادة حسن طاهر أويس.
(2) حركة شباب المجاهدين بقيادة مختار روبو.
(3) الحزب الإسلامي بقيادة الدكتور عمر إيمان. ويعتبر هذا الحزب هو الفصيل الأحدث على الساحة، فقد تشكل مؤخرا من أربع فصائل هي: المحاكم الإسلامية (جناح أسمرا) والجبهة الإسلامية، وعسكر الفاروق، ومعسكر رأس كامبوني، وهي جميعها عدا المحاكم لا تتمتع بقوة يعتد بها.
وكان كل من محاكم أسمرا، وحركة شباب المجاهدين، منضويين تحت رئاسة شيخ شريف احمد ضمن تحالف اعادة تحرير الصومال، الذي تكون في اعقاب الغزو الأثيوبي للصومال، واخذ على عاتقة مهمة محاربة الاحتلال وطرده من البلاد. لكن هذا التحالف تعرض للانشطار بسبب الخلافات التي نجمت عن توقيع شيخ شريف اتفاق سلام في جيبوتي مع الحكومة السابقة برئاسة عبدالله يوسف في يونيو الماضي، وهو الاتفاق الذي أدى إلى الانسحاب الأثيوبي، ويعتبر قاطرة المتغيرات الحالية.
حيث اعتبر رفقاء السلاح، خاصة ممن اختاروا اريتريا مقرا لهم، أن هذه الخطوة تمت لخدمة الولايات المتحدة وأثيوبيا، ومن اجل ضرب الإسلاميين يبعضهم البعض، وشق صفوفهم . وتبعا لذلك انقسم التحالف إلى تحالفين: الأول في أسمرا، والآخر في جيبوتي.
وهذا الانقسام طال أيضا تنظيم المحاكم الإسلامية الذي الذي انشق من داخل صفوف التحالف. أما حركة شباب المجاهدين فخرجت منه بقواتها وأسلحتها أقوى مما كانت. واستطاعت إلحاق العديد من الهزائم العسكرية بالقوات الأثيوبية وقوات الحكومة السابقة. وقد أعلنت كل هذه القوى بوضوح عزمها محاربة الحكم الجديد، فهو في رأيهم امتداد للحكم السابق بتوجهاته و برامجه رغم تغير الشخوص.
وفي المقابل يتمتع الطرف الحكومي الجديد بمساندة أربع فصائل إسلامية، مما يعطيه ايضا قوة متكافئة على الأرض أمام مناوئيه من الإسلاميين. وهذه الفصائل هي : المحاكم الإسلامية، جماعة الإخوان المسلمون ممثلة في كل من حركتي الاصلاح و التجمع الإسلامي، وجماعة أهل السنة التي أثبتت وجودها و قوتها على الأرض عندما تمكنت من طرد شباب المجاهدين من بعض المدن التي دخلتها بعد الانسحاب الاثيوبي منها، مما يؤكد قوة الحكومة والجماعات المتحالفة معها عسكريا في مواجهة خصومها.
مصاعب ومتاعب
هذه الأجواء الملتهبة وضعت الرئيس شيخ شريف أحمد وحكومة شاراماركي أمام فوهة البندقية المحشوة بنيران الصراع والاقتتال، قبل أن تبدأ مهامها أو قبل أن تمنح الفرصة لإثبات نواياها الحسنة. وهذا ما استدركه الرئيس الجديد ورئيس وزرائه اذ أعلنا دعوة كل الأطراف إلى الحوار.
وتعهد شريف بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في التزام منه بالأهداف التي قاتل من أجلها الصوماليون طوال السنوات الماضية. كما تقدم بطلبات إلى الأمم المتحدة والولايات المتحدة والجامعة العربية لرفع أسماء الشخصيات الصومالية التي تعتبرها واشنطن مرتبطة بالإرهاب ومنهم حسن طاهر اويس، ومختار روبو. وتمثل هذه الخطوة نوع من حسن النية و محاولة للتقرب والتواصل مع رفاق السلاح.
ولكن لم يلق طلب شريف الاستجابة المرجوة بعد، مما يعقد موقفه الداخلي أمام القوى الرافضة. وما لم تحدث الاستجابة فإن السياسة الأميركية تكون قد تعمدت إحراق مصداقية الرئيس الجديد وحكومته، والزج بالصومال تجاه استمرار الاقتتال بين الإسلاميين، لأن الاستمرار في قوائم الإرهاب يهمش هذه الفصائل الإسلامية ويمنعها من المشاركة في السلطة، وهو ما لن تقبل به، لأنها تعتبر نفسها صاحبة النصر على أثيوبيا والغرب.
ويخشى الصوماليون بكل طوائفهم أن تؤدي هذه التناحرات بين إلى وقوع البلاد في دوامة اقتتال جديدة تأخذ الجميع بعيدا عن الأولويات التي يتطلعون اليها، والتي تمثل تحديا لكل رفقاء وفرقاء السلاح، وهذه الأولويات هي:
(1) إنهاء الاقتتال الداخلي وإحلال السلام بعد انسحاب القوات الأثيوبية من البلاد، وذلك لن يتحقق الا عبر الحوار.
(2) إعادة بناء الدولة الصومالية . ويندرج تحت هذا الشعار توحيد البلاد بعدما تفتت إلى دويلات ومناطق، فبينما يحكم القراصنة في الشمال، فإن شباب المجاهدين وإسلاميين آخرين يحكمون الجنوب، فيما لاتسيطر الحكومة بعد الا على العاصمة و مناطق محيطة بها. وتتضمن عملية إعادة البناء أيضا اصدار دستور جديد للبلاد يحظى بالقبول العام، وإعادة تأسيس جهاز الدولة الإداري ومؤسستي الشرطة والجيش.
و عودة الدولة إلى ممارسة مهامها على مستوى خدمات التعليم والصحة والماء والكهرباء والإعاشة و الاقتصاد، فكل هذه الكيانات والخدمات انهارت وضاعت وسط الاقتتال الذي عانت منه البلاد طوال السنوات الثمانية عشرة الماضية. ومالم يتحقق ذلك فلن يخرج الصوماليون من جحيم المجاعات التي تجتاحهم، ولن ينجحوا في مفارقة النزوح داخل الوطن و اللجوء خارجة ، اذ تكشف الاحصاءات الدولية أن ما يربو على مليوني صومالي عاشوا محنة النزوح واللجوء داخل وخارج الوطن. وهؤلاء يتطلعون لأن تضع الحرب أوزارها.
(3) وهناك أيضا المطلب الدولي الخاص بضرورة مواجهة القراصنة والقضاء عليهم ، وهذا في حد ذاته يعد تحديا كبيرا للنظام الجديد، سيتوقف عليه حجم التأييد الدولي الذي سيتمتع به.
التدخلات الخارجية
ومن المؤكد أن شيخ شريف احمد ورئيس الوزراء شارماركي يواجهان أصعب مهمة ممكن أن يبتلى بها أي مسؤول في العالم. ولن يتمكن اي منهما من الوصول إلى مبتغاه، الا عن طريق الحوار المفضي إلى التراضي العام والتوافق الوطني. فالصومال استعصى على التدجين عبر القوة العسكرية داخليا وخارجيا على مدى العقدين الماضيين ، فكل التدخلات العسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة الأميركية وأثيوبيا ثبت فشلها .
وما يعقد الموقف في الداخل الصومالي أيضا ان القوى الخارجية لم تتوقف عن فرض هيمنتها على الساحة السياسية، مما يضع البلاد في حالة تجاذب متواصل. فلاتزال القوى الاقليمية ممثلة في أريتريا وأثيوبيا تمارسان وجودهما في الصومال من خلال القوى والفصائل التي توالي كل منهما. فيما تعاني بقايا جهاز الدولة الموجود حاليا من الفساد والاختراق الخارجي.
كما أن القوى الدولية، ممثلة في الولايات المتحدة على وجه الخصوص لاتزال حاضرة. وليس بعيدا عنها دفع الرئيس السابق عبد الله إلى الاستقالة، ومباركة انتخاب الرئيس الجديد، بل وربما ترشيح أو فرض شارماركي لتولي رئاسة الوزراء. فالرجل عاش وتربى في الغرب، وهو في ذلك على غير هوى الإسلاميين، بل انه ربما لايفهم ملابسات وتعقيدات الداخل الصومالي.
فعندما دعا حركة شباب المجاهدين إلى الحوار في تصريحات أدلى بها لوكالة رويترز، استخف بهم وبقتالهم قائلا: (لا أعتقد أن هناك قضية يحاربون من أجلها اليوم)، وهي لغة تفقد لأبسط قواعد الحوار، وتفقده قيمته قبل أن يبدأ. ومثل هذه التصريحات تزيد من شكوك الإسلاميين المناوئين للرئيس شريف، وهو رجل مخلص لكنه لايزال يحتاج أيضا إلى المزيد من الصقل السياسي، اذا ما قورن ربما برئيس الوزراء شاراماركي الذي خبر العمل في المؤسسات الدولية.
وتنم تصريحاته عن تبنيه الرؤية الاميركية تجاه بعض الفصائل المناوئة له ولها. وليس من المبالغة أو التجني ان شاراماركي بشكل خاص سيجابه مستقبلا برفض واسع من عموم الإسلاميين المقاتلين وغيرهم، اذا ما استمر على هذا النهج أو اذا ما حاول أخذ البلاد في طريق (التحديث ) الذي قد يراه البعض نوعا من (التغريب) البعيد عن الأسلمة.
وقد اصدر عدد من علماء الصومال عقب اجتماع لهم في مقديشيو نهاية الاسبوع المنصرم بيانا أمهلوا فيه الحكومة تسعين يوما لتطبيق الشريعة الإسلامية، وأربعة أشهر لانهاء كافة أشكال الوجود الأجنبي، ولم يحدد البيان ماهية هذه القوات. ولكنه ربما قصد قوات حفظ السلام الأفريقية، البالغ عددها نحو ثلاثة آلاف وخمسمئة جندي. وهو ما يلقى مزيدا من العبء على الرئيس والحكومة، وهما لا يملكان بعد الكثير من مقومات السلطة الحقيقية، فكل منهما لايزال معلقا في الهواء.
أحمد الكناني