نستمع في عالمنا إلى أنواع عدة من الموسيقى، بعضها نعيش داخله، والاخر نعرفه عن قرب، ومجموعة اخرى لا نعرفها ولم نقتحم عوالمها، ولعل موسيقى الراي واحدة من تلك الأنماط الموسيقية التي لم يمض سوى سنوات قليلة على وصولها إلى المشرق العربي، رغم أنها، وفي مهدها ونشأتها، عربية الأصل، اذ انطلقت من أرياف الجزائر. ولم يكن وصول هذه الموسيقى الى اعتاب العالمية، وصنعها لنجوم لم تعد أقدامهم تطأ الأرض، ليسهم في اطلاقها من بوتقة الانحباس والتموضع في خانة ومستوى طورها الأول، ضمن المشرق العربي، ولعل مرد ذلك صعوبة لهجتها التي تمزج بين اللغة المحكية في الجزائر والمغرب، الى جانب كلمات فرنسية . وغيرها ايضا. وهنا يبرز السؤال: ما هو أصل هذه الموسيقى؟
تحتفظ موسيقى الراي،كغيرها من أنواع الموسيقى في العالم، بتاريخ عريق وقصص كثيرة صيغت على معها ايقاعات مميزة وساحرة، والمبحر في هذه الموسيقى سيكتشف جوانب عدة من التاريخ السياسي والاجتماعي للمنطقة التي نشأت فيها هذه الموسيقى، فهي جاءت من بلاد الجزائز التي وقعت قبل استقلالها تحت الاستعمار الفرنسي، وللتحرر منه دفعت ضريبة عالية جداً من الدماء الزكية.ويفيد التعريف اللغوي لموسيقى الراي بانها: (الطابع الموسيقي الجزائري والعربي الوحيد الذي استطاع، في وقت قياسي، بلوغ الذروة العالمية).
وادرج القاموس اللغوي الفرنسي (لاروس)، كلمة الراي للمرة الأولى، في عام 1998، وذلك بحسب سعيد خطيبي، مؤلف كتاب (أعراس النار.. قصة الراي)، وفيه استعرض تاريخ هذه الموسيقى التي خرجت من أحضان مدينة وهران الجزائرية، ولاتزال حتى اللحظة، محتفظة بالإيقاع الموسيقى الرائع ذاته.
ويكشف خطيبي، أن موسيقى الراي تستمد بعض جذورها من الأغنية الوهرانية (نسبة إلى مدينة وهران الواقعة شمال غرب الجزائر)، وأن بدايتها كانت على أيدي الشيخات، أما الحصاد والشهرة العالمية فنالها نجوم الجيل الجديد الذين يطلقون على أنفسهم: الشاب والشابة، ليميزوا أنفسهم عن الجيل المؤسس. وبالتالي فإن موسيقى الراي تعد أحد أصناف الغناء الشعبي التقليدي، وهي تعني الرؤيا أو الرأي.
وهران مهداً
ينبئنا المضمون التاريخي المتخصص، بان أرياف الغرب الجزائري، وتحديدا مدينة وهران وسيدي بلعباس، تعتبر مهد موسيقى الراي، حيث كانت النساء فيها، منذ بدايات القرن الفائت، يرددن بعيداً عن الرجال، أغاني (الراي)، في مناسبات خاصة كالأعراس، وحفلات الختان والخطوبة، علما بأن أصول هذه الموسيقى تعود للشعر الملحون الذي يستوحي كلماته من اللهجة العامية القريبة للعربية البدوية، ويأخذ جل مواضيعه من المشكلات الاجتماعية، وركزت هذه الموسيقى اهتمامها، إبان فترة الاستعمار الفرنسي، على سرد مآسي السكان من صعوبة المعيشة وآفات اجتماعية، محاولة بها توعية المستمع، ثم تحولت مع مرور الوقت إلى القالب الموسيقي الأكثر تعبيرا عن مشاغل الشباب وطموحاتهم.
المؤسسون
ويسجل خطيبي، في كتابه (أن موسيقى الراي جزء من التراث الشعبي لمدينة وهران، وتعود في جذورها الى أواخر القرن التاسع عشر، وفي وهران نظم عام 1985 أول مهرجان للراي، تلاه مهرجانان دوليان، في مدينتي وجدة المغربية وطبرقة التونسية، أما أول مهرجان لموسيقى الراي في الخارج فعقد في ضاحية بباريس عام 1987). وبحسب خطيبي، فإن بدايات موسيقى الراي تعود الى مؤسسين عديدين، ومنهم: الشاعر مصطفى بن إبراهيم، وهو أحد الاسماء البارزة التي ميزت مرحلة البدايات عبر نصوص جريئة ذات طابع إيروتيكي. والحاج محمد الغوايشي الشهير بالشيخ حمادة، الذي استفاد من انتشار الأسطوانات، وسجل 100 أغنية، بعضها في باريس وبرلين، ومنها أغنية بإشراف الموسيقي المصري محمد عبدالوهاب في ثلاثينيات القرن العشرين. في حين أن الشيخ بلاوي الهواري الذي يعد أحد رموز الأغنية الوهرانية، وهو لحن نحو 500 أغنية، فانه يرفض الاعتراف بما حققه الشاب خالد والشاب مامي والشاب فضيل، في توسيع نطاق موسيقى الراي ونشرها عالمياً.
الرعيل الأول
ذاع صيت موسيقى (الراي)، بدايةً في الجزائر، ومنها انتقل إلى بلدان المغرب العربي كفن جديد يمتاز بجرأة الموضوعات وسرعة الإيقاع، ومع ميلاد موسيقى الراي بزغ نجم أوائل المغنين الشعبيين الذين ساهموا ـ على المستوى المحلي ـ في التعريف بها، ومن أبرزهم سعيدة بضياف الشهيرة بالشيخة ريميتي والملقبة بـ (جدة الراي)، والتي بدأت الغناء في الأربعينيات من القرن الفائت، وكانت أول من أصدر ألبوما خاصا بموسيقى الراي عام 1954، برعاية شركة (باتي ماركوني) الفرنسية، وظلت تغني حتى 2006، حيث توفيت عن عمر ناهز السبعين عاما، وذلك بعد يومين فقط من إحيائها لحفل كبير مع الشاب خالد، في قاعة (برسي) الفرنسية. وتوصف الشيخة ريميتي بأنها امرأة صنعت تاريخ جيل كامل من النساء الجزائريات، خاصة وأنها حاكت تجربة موسيقية امتدت لأكثر من 50 عاماً، رسمت خلالها بطاقة هوية بلدها الجزائر، وكانت تردد:( أن الشقاء علمها الاحترام والحشمة والغناء). وهذا كونها عانت كثيراً من الفقر والجوع في الصغر، وكانت تبيت في العراء، ولكن زواجها بالعازف وقائد إحدى الفرق الموسيقية محمد ولد النمس، انتشلها من حياتها السابقة، ولحن لها أبرز أغنياتها، ومنها أغنيتها الشهيرة : (هاك السرة هاك)، والتي تعتبر أول أغنية (إيروتيكية) في مسار الأغنية البدوية. وكانت أكثر النساء في طرح القضايا والهموم النسائية، وعلى الرغم من كونها أمية، فإنها كانت تؤلف الأغاني، كما يسجل لها التزامها الوطني في فترة الاستعمار، وشروعها في الغناء من أجل جزائر حرة مع اندلاع الثورة ضد فرنسا. ومن فناني تلك الفترة أيضا الشيخ (بلمو) الذي يلقب بـ (أبو الراي)، وكان الاثنان تمكنا من تطوير موسيقى الراي، وإعطائها روحا جديدة، عن طريق إدخال آلات متنوعة، كالساكسوفون، فانفصلت نهائيا عن الملحون.
إثراء الأغنية الفرنسية
لعل اللافت في موسيقى الراي، أنها موسيقى محلية بحته، وكلماتها بسيطة جدا يمكن لأي شخص أن يفهمها، حتى وإن لم يكن عارفاً بتفاصيل اللهجة الجزائرية، وهي عادة تخاطب الشباب وفيها تعبير عن الشكوى والألم والغربة، والمدقق في تفاصيل هذه الموسيقى، سواء في إيقاعاتها أو كلماتها، يجد أنه يتخللها الكثير من عناصر المأساة، رغم أنها موسيقى راقصة. وتعتمد موسيقى الراي بالأساس على آلة الناي وإيقاع تقليدي، وألحانها مركزة على الإيقاع وتصاحبها الآلات الكهربائية، وتستخدم كثيرا، في مقاماتها الموسيقية: النهاوند، الكرد، الحجاز.
ولعبت موسيقى الراي، رغم انها محلية بحتة، دوراً مهماً في إثراء الأغنية الفرنسية، وكذلك الموسيقى الاسبانية، وبلا شك فان تحديث موسيقى الراي عبر ادخال آلات : الكمان، الاكورديون، الغيتار، الكلارنيت، البيانو الكهربائي( في العام )1970، زاد من تأثيرها على الساحة الدولية. وأبرز ما دعم ذلك هو ظهور جيل جديد من موسيقى الراي، وذلك في أواخر السبعينيات من القرن 20، وهو ما عمل على تقديمها للعالم بصورة جديدة، تختلف عن المتعارف عليه في حدود مدينة وهران الجزائرية. وجسد الجيل الجديد من موسيقى الراي، والذي مزج بين الراي التقليدية والتكنولوجيا الموسيقية الغربية الجديدة، نماذج وصور البحث عن الذات بالنسبة للشباب الجزائري الذي يعيش في بلد يتخبط بين تناقضات التقاليد القديمة والحديثة. وهو ما وضح جليا في فرنسا، وانسحب ليؤثر، في نهاية المطاف على توليفة تكوين ومضامين الموسيقى بفرنسا.
الفن الممنوع
كانت موسيقى الراي وسيلة مهمة في مواجهة الاحتلال، ومحرضة على الانتفاضة ضد فرنسا، الا أنها عانت من حجر التلفزيون الجزائري والإذاعة، اذ مارسا طويلا رقابة صارمة على أغاني الراي، عبر منع بثها على الهواء بسبب تعرض بعضها لموضوعات أخلاقية محظورة في المجتمع الجزائري، كالجنس والعلاقات غير الشرعية، وكذلك مشكلات الفقر والبطالة، وهو ما جعلها حبيسة الملاهي الليلية والأشرطة، حتى حقبة الثمانينات من القرن العشرين. ورغم الحظر الذي فرضته الإذاعة والتلفزيون في الجزائر، على أغنيات فن الراي، لدرجة أصبح يعرف باسم (الفن الممنوع)، الا ان جيلاً من الشباب الجزائري تمكن من حمل هذا الفن وايصاله إلى العالمية، وتمثل ذلك بظهور جيل الشباب الجديد، أمثال: الشاب خالد، الشاب مامي، الشابة زهوانية. وهؤلاء من الذين أعطوا نفسا جديدا لموسيقى الراي، فسميوا بـ (الشباب)، مقارنة بالشيوخ الذين يمثلون التيار التقليدي، كما أدخلوا على هذه الموسيقى آلات غربية، كالقيثارة الإلكترونية والسنتيتزير والباتريه، حتى ان بعضهم تشبه بفرق غربية، كفرقة (راينا راي)، التي كانت إيقاعاتها تذكر بفرقة (داير ستريت) الأميركية. فكانت أغاني مثل : (يا دي المرسم) و(وهران.. وهران) و(يالزينة ديري لاتاي) التي تتحدث عن الحب والخيانة وحب الوطن، حيث اخذت تغنى في كل مكان. وبلغ تعلق الشباب الجزائري بـ (الراي)، إلى درجة جعلت النظام يرضخ لطلباتهم ويعترف ضمنيا بمكانة هذا اللون الموسيقي، عن طريق تنظيم أول مهرجان رسمي لأغنية الراي في مدينة وهران سنة 1985. ومع انتقال الشغف بهذه الموسيقى إلى أعداد المهاجرين الجزائريين المقيمين في فرنسا أصبحت مرسيليا التي لا تفصلها عن وهران سوى ضفة المتوسط، موطنا ثانيا لموسيقى الراي، تسجل فيها الألبومات وتنطلق من ملاهيها وقاعاتها نغمات الراي الراقصة ويقيم فيها فنانو الراي المغاربة شهورا عدة، في السنة.
نظرة شركات الانتاج
فتح هذا الشغف بموسيقى الراي، أعين شركات الانتاج عليها، ورغم انها موسيقى شعبية بحتة، الا انها بدأت باستغلالها والترويج لها، حتى صنعت من حامليها نجوماً لا تطأ أقدامهم الأرض، فاهتمام الساحة الفنية الفرنسية بهذه الموسيقى، بدأ في حقبة الثمانينات من القرن ال20، بعد تنظيم منتجين فرنسيين، هما ميشال ليفي ( المنتج السابق للشاب مامي)، ومرتان ميسونيي( شخصية بارزة في مجال "الوورلد ميوزيك")، لأول مهرجان لأغنية الراي في باريس بضاحية بوبينيي في يناير 1986، وكان الاثنان استمعا إلى بعض أغاني الراي في مرسيليا وأبديا إعجابهما بها.
بين القديم والجديد
ومن بين الشباب الذين اشتهروا في عالم موسيقى الراي، كان الشاب حسني والملقب بأمير أغنية الراي العاطفية الذي اغتيل على يد مجهولين في العام 1994، فقد كان هذا الشاب يؤلف أغانيه ويلحنها في وقت قياسي تلبية للطلب المتزايد على أعماله، التي بلغت نحو 500 أغنية، وضمها 150 ألبوماً، لدرجة أنه كان يصدر ألبومين كل أسبوع، وأحيا حفلات عدة في الجزائر والمغرب وفرنسا والسويد والنرويج. وهذا في حين أن الشاب مامي، واسمه الحقيقي محمد خليفاتي، يعتبر أول مغن يمزج بين الراي والراب والأغنية القبائلية والروك، وهو ما جعله أكثر المغنين الجزائريين والعرب انتشاراً في العالم، وله أغنيات مشتركة مع مطربين من بريطانيا وإيطاليا وكندا، إضافة إلى المغربية سميرة سعيد في أغنية(يوم ورا يوم).أما بالنسبة لمغنيات الجيل الجديد، فنذكر منهن الشابة الزهوانية، والتي تعتبر من أكثر مغنيات الراي شهرة في المغرب العربي وفرنسا.
نجاح
نجاحات فنية وتجارية كبيرة، أعقبت (مهرجان بوبينيي)، بعد أن أبدت كبريات شركات التسجيل، مثل (يونيفرسال) و(بوليغرام) و(فيرجين) و(بركلي)، اهتمامها بإنتاج ألبومات الراي، فخصتها بتقنيات توزيع وتسجيل عالية المستوى، وضخت أموالا كثيرة في حملاتها الدعائية، وقد ساعدتها في ذلك الاجواء العامة التي صاحبت تلك الفترة، حيث كان رجال السياسة الفرنسيون آنذاك، وعلى رأسهم وزير الثقافة السابق جاك لانغ، يدعون إلى تشجيع التقارب الثقافي بين مختلف الأعراق وتشييد مشهد ثقافي فرنسي غني بتعدد أطيافه وألوانه، كما ساهمت موجة هجرة الفنانين الجزائريين إلى فرنسا في عقد التسعينيات من القرن العشرين: (العشرية السوداء) في تكريس مكانة باريس كعاصمة أولى للراي، بدلاً من وهران.
أرشيف ضخم
بعد تخطيها لأعتاب الدولة الفرنسية، تمكنت موسيقى الراي من انشاء ارشيف متكامل من الالبومات التي تنافس في اصدارها العديد من نجوم هذا الفن، ومن أبرز الألبومات التي تركت بصمتها في تلك الفترة، ألبوم (لات مي راي) -1990 للشاب مامي، الذي كان أول من طرق باب العالمية بهذا الألبوم الذي سجل في لوس أنجلوس، وحقق نجاحاً كبيراً، ثم الشاب خالد الذي حاز ألبومه (خالد)_ 1992، نجاحا ساحقا، بفضل أغنيات (دي دي)، و(بختة)، و(وهران)، و(الشابة). واحتل لأسابيع طويلة المرتبة الأولى في شباك مبيعات الاسطوانات الفرنسية، وعدد من الدول الأوروبية والعربية ودول شرق آسيا وإيران والهند وأميركا اللاتينية، وكان متميزا في طريقة مزجه بين الإيقاعات الشرقية والغربية. ومن بعده أصدر الشاب خالد ألبوم (عائشة)- 1994، وألبوم (1 2 3 سولاي)- 1998، وأغنية (عبد القادر)، للثلاثي خالد ورشيد طه والشاب فضيل، وبيع منه أكثر من 300000 اسطوانة.
ورغم أن منشأ موسيقى الراي عربي الأصل،إلا أن وصولها الى أوروبا سبق بكثير وصولها الى المشرق العربي الذي بدأ يعرف هذه الموسيقى، بعد وصول أغنية (دي دي) إليه، ورغم صعوبة فهم بعض المفردات التي تمزج بين اللهجة المغاربية والفرنسية، إلا أن الأعمال المشتركة بين مغني «الراي» وآخرين من الشرق والغرب، تعددت كثيراً. مثل: الشاب فضيل وآمال حجازي، الشاب مامي وسميرة سعيد، مامي وستينغ، خالد وميلان فرمر، مامي وزوكيرو، مامي وأليسا، خالد وكاميرون كارتيو.