تنوعت مفردات ألق الحضارات الإنسانية، منذ القدم، ذلك في صور إبداعها وتكامل مزيج تناغمها ولكن عدداً محدداً من الحضارات، احتفظ بملمح خصوصية وتفرد في طبيعة مكوناته الابداعية.

وأبرز مثال في هذا الصدد، هو في حضارتي سومر وبابل، في بلاد الرافدين، واللتين انتجتا في قيمهما، صورة خلاقة لمدى رقي فكر الشعوب، عبر المزاوجة بين تميز الفكر والموسيقى، وتبدت معالم ذلك جلية في مدى التقدم والتطور في حقل الإبداع الموسيقى بمختلف ألوانه.

 

يحكي كتاب «ألواح سومر» للباحث صومئيل

 

كريم، عن قصة الحياة الموسيقية في سومر، إذ يوضح أن التآليف الأدبية المنقوشة على الألواح المكتشفة من تلك الحضارة، تبلغ المئات عداً. وهي تعرض لنا تنوعاً في الأبواب والنماذج. ونتعرف في "ألواح سومر"، على غنى المكون الحضاري الأدبي والموسيقي في تلك الحضارة، فكما ترك الإغريق الياذتهم، نجد في بلاد سومر أدباً غنياً ناضجاً، يتضمن قصص الملاحم والتراتيل التي احتواها الكتاب.

لقد أبدع السومريون في قصص البطولة، فدبجوا ذلك على شكل صور شعرية تتلى أو يتغنى بها. وتعكس لنا هذه القصص روح العصر ومزاجه، فقد كان الشعراء والمغنون التابعون للبلاد، وهم مدفوعون بالدوافع الشديدة الناشئة عن الطبقة الحاكمة لنيل الشهرة، ينظمون القصائد القصصية أو الأغاني التي تشيد بأعمال المغامرات ومآثر البطولة الخاصة بالملوك والنبلاء.

وكان الغرض الأول من أناشيد الملاحم، أن تكون أداة تسلية في الأعياد والمآدب الكثيرة التي تقام في البلاط. وكانت تنشد على الأغلب، وطبقاً لما يؤكده كتاب «ألواح سومر»، بمصاحبة القيثار أو العود.

 

أول أغنية في الحب

كانت الحضارة السومرية، سباقة في إبداع أغنيات الحب وأشعاره، وهو ما يثبته الفصل الثالث والعشرون من كتاب «ألواح سومر». كما وجدت في اسطنبول قطعة على شكل لوح صغير مسجل تحت رقم 2461 ، مدون عليها القصيدة الشعرية التي تشيد بالجمال والحب، ومن أبياتها:

 

أيها العريس الحبيب إلى قلبي

جمالك باهر، حلو، كالشهد

أيها العريس دعني أدللك

فإن تدليلي أطعم وأشهى من الشهد

 

كما وجدت أغنية أُخرى في الحب مكتوبة على ألواح تخص الحضارة السومرية.

إن القصائد والأغاني والمقالات التي عرفت في بابل، لا تمثل الكمية المعروفة في عصر حمورابي، فكان معروف عندهم الشعر القصصي وشعر التراتيل الدينية وكان الشعر الغنائي الغزلي نادراً في الأدب السومري، خاصة شعر الغزل والحب. وقد أوضح العالم سي ليونارد وولي، في دراساته وأبحاثه بكتاب «تاريخ العالم»، انه كانت الموسيقى من شعائر الأرباب البابليين.

كما ان فن الموسيقى نشأ في بابل وقد بلغ درجة رفيعة في الاتقان ضمن طقوس المعابد. وأيضاً فإن نغماتها عريقة في القدم، فكان لكل مدينة معابدها. وكذلك يبين وولي كيف انه كان أهم واجبات الملك ان يعتني بنشيد المعابد وإهدائها وإصلاحها والمحافظة عليها.

ويطلعنا كتاب «بابل المدينة الداخلية»، الذي اعدته وزارة الثقافة العراقية، على قيمة مكتشفات الحفريات ضمن خراب بابل، ومنها تحديداً التي تشير إلى عصر حمورابي، اذ سميت بطبقات. واقدم طبقة وصلوا إليها عن طريق الكشف، من طبقة إلى طبقة، كانت السلالة الأولى في بابل، ثم نجد الطبقة الأحدث التي تفصلها عن الطبقة الأخرى، فتأتي طبقة حمورابي.

 

طبقة حمورابي

عثر في تلك الحفريات، على كميات كبيرة في الرقم الطينية، ويوجد عليها تواريخ ملوك، وقد وجدت الرقم ضمن البيوت القديمة التي دمرها الزمن. وعثر ضمنها على جرار.

كما ظهرت الأواني المصنوعة من حجر الصوان. وعثر على تماثيل نساء عاريات وأشكال آلهة. وأيضاً ظهرت بين الألواح تماثيل موسيقيين، بينها تماثيل لأشخاص عراة، وفيها كانت تشير الصور إلى وضع الرقص بينما يعزف الموسيقيون على آلة موسيقية ، أو يعزفون على قيثارة صغيرة يحملونها، مستقيمة أو مائلة، على الكتف الأيسر.

 

قيمة الموسيقى في حياة بابل

كانت نظرة العامة الى مناهج الإبداع في بابل، أشد قسوة من نظرة المصريين إليها. ومع ذلك كانت اهتماماتهم في البناء عظيمة. كما حفلت حياة البابليين بتميز الفنون في مجتمعهم. وكان في وسع الملك أن يزخرف قصره بالنقوش أو بالأسود. واعتقد أبناء تلك الحضارة، أنهم عرضة لأذى الشياطيين، فكانوا يعملون على مطاردتهم بإقامة أسود منحوتة في قصورهم.

وعمدت كل مدينة إلى تشييد معابدها الخاصة، وكان من أهم واجبات الملك أن يعتني بالاطلاع على فحوى نشيد المعابد. لقد نشأ فن الموسيقى في بابل بشكل متفرد، ولكنه بلغ، منذ بدايته، درجة رفيعة من الاتـقان.

وقد جرت العادة في المدن القديمة على تدوين الحوادث اليومية التي تصور الحياة ضمن ملف على شكل مصنف يحكي الكثير من الأحاديث والقصص التي جرت، فظهرت أهمية الآلة الموسيقية في هذا المجال. كما كانت آلات العزف- حسب ما تبين المؤلفات والمراجع المتخصصة، مزخرفة في تلك الأيام بنقوش مطلية بالذهب والفضة.

 

المرأة مصدر الحياة

لم ينظر إلى المرأة في بابل على انها الأم فقط، بل كانت أيضاً مصدر حياة وإبداع، وتجسد دور المرأة في بابل كدورها في مصر. ولقد كانت الطقوس الدينية التي يزعم الأقدمون أنها تؤدي إلى حدوث خوارق الطبيعة، مصدر نشوء فنون التمثيل والرقص والموسيقى، وكذلك بروز معظم ألعاب التسلية. فالموسيقى والرقص ليسا مجرد وسيلتين من الوسائل التي يعبر بها الإنسان عن عاطفتي الفرح والحزن.

تؤكد عمليات البحث والدراسة المنهجيين، ان مفردات التكوين الموسيقي في عصرنا الراهن، هي بقية من مراسم القتال، كانت موجودة في الحضارة البابلية، وقد أدخل عليها كثير من التعديل.

كما انه ليس الرقص إلا من آثار تلك الطقوس التي يُتوصل عبرها إلى أغراض سحرية، فقد ساعدت طبيعة البلاد في حضارة بابل، على التقدم في جميع المجالات، خاصة في حقل تشييد المباني وسن القوانين، فانتشرت القصور التي تزينها النقوش البديعة التي تشير الى تماثيل حملت معاني البطولة، بأشكال رؤوس آدمية وأجساد بعض الحيوانات، كما نشاهد في (متحف اللوفر) .

ومن أهم الآلات الموسيقية في حياة المرأة، حينذاك، المسبع، وهو عبارة عن صفارة مؤلفة من سبع قصبات مختلفة الأطوال، وهو في الأصل، ناي عربي. كما عزفت المرأة البابلية على الصنج، منذ أكثر من ألفين وأربعمئة عام قبل الميلاد، كما ورد في الموسوعة الفرنسية.

تابعت الآلة الموسيقية مشوار تقدمها، من عصر إلى اخر، حتى وصلت ارفع مراحل تطورها في عصر الملك البابلي حمورابي، وكانت تقام الاحتفالات والأفراح مع الأنغام الموسيقية، فاحتلت القيثارة الصدارة في ذلك العصر، إضافة إلى أهمية الطبول بأنواعها، والتي ثبتت أطرافها بمسامير مصنوعة من الذهب. ولم تكن الآلات الموسيقية تباع بالنقد في بابل، ذلك لأن النقد كان غير معروف.

فتعارف الجميع على أن يدفعوا مقابل الآلات الموسيقية أوزاناً من الفضة. وقد بلغ فن الموسيقى درجة عالية في التقدم، وغدا لكل مدينة، آنذاك، معابدها وآلهتها. وتضمنت الأغاني والموسيقى التي عزفت في بابل في عصر حمورابي، الشعر القصصي وشعر التراتيل الدينية. إذ كان الشعر الغنائي الغزلي نادراً في الأدب السومري، خاصة شعر الحب.

 

حمورابي كرّم الموسيقيين

كان من أهم واجبات الملك الاهتمام بنشيد المعابد، ومن أشهر آلات العزف في العصر القديم، واحدة مجسدة بشكل ثور، مصنوعة من الخشب، ومطعمة بالأصداف، ومسكوبة من الذهب، ويبدو فيها الرأس متألقاً بعينين من المرجان، وشدت على جسد هذه الآلة، عشرة أوتار. وعموماً فإنه يعود المعزف في أصله، العام إلى 2700 قبل الميلاد، حسب ما ورد في الموسوعة الفرنسية.

كما ازدهرت الموسيقى في بابل في عصر حمورابي، وبرز العديد من الموسيقيين، بمستوى مميز جداً، لا يقلون عن قيمة وأهمية الأطباء والحرفيين والمفكرين، وأيضاً عن المبرزين في مجالي الفلك والكيمياء، منذ القدم. لا جدال في ان الأمة البابلية، ابدعت وكانت سباقة، بين مختلف الاأمم، ليس كونها صاحبة قصب السبق في امداد البشرية في منهج القوانين، بل أيضاً في الغناء والشعر والموسيقى.

ونطالع في طبيعة الأثر الذي تركته لنا تلك الحضارة، وجود القوانين في لوحة حُليت برسم تنطوي على التقوى تُمثل الملك، وهو يتلقى القوانين في 181، وهي فقرة تُلخص القوانين التي كانت سارية في عصره.

 

موسيقى سومر

برز السومريون بشكل لافت في مجال الموسيقى والشعر، ولم يقلوا شأناً، عن البابليين في هذا الصدد. وقد عرفوا أول المحاكم وأول المدارس وأوجدوا النظام الستيني، ومنه تقسيم الساعة إلى ستين دقيقة، والدقيقة إلى ستين ثانية. وكانت أول أغنية في التاريخ مكتوبة على لوح من ألواح سومر.

وهناك الكثير من القصائد والمقالات السومرية التي تمثل الأدب السومري وجدت في الألواح المحفوظة في متحف اسطنبول. وكانت تقام الأعياد والاحتفالات بعام الفلاح وعيد رأس السنة.

 

أول نظام موسيقي

اخترع في زمن الحضارة السومرية، أول نظام موسيقي. وكان للموسيقى السومرية أثرها على أهل الفن في مصر وعند الإغريق والرومان، لأنهم نظموا المزامير والأناشيد والأغاني مع الملاحم. كما عرفوا آلات العزف الكثيرة المصنوعة من الذهب والفضة (تعود إلى الألف الرابعة قبل الميلاد).

ولقد وجد عندهم آلات قديمة، كالقانون الأفقي والقانون العمودي الذي يتألف من 4 أو 9 أو 12 وتراً. وأيضاً هناك آلات القرع والبزق برقبة طويلة والناي والأورغول المستقيم والمخروطي والطبل والأجراس.