حضور مؤثر، صوت رخيم، لغة عربية سليمة، وكاريزما جميلة.. إنه عنوان مكون هوية المبدع في شخصية الناقد والمؤرخ الموسيقي السوري الراحل، الأرمني فاهيه تمزجيان (1945- 2011)، أحد أبرز الأعلام ضمن هذا الحقل، في سوريا والعالم العربي أجمع، والذي نستعيد مع ذكرى رحيله الأولى، ملامح قصة مبدع متفان ،عرّفنا بروائع الموسيقى العالمية، وأثرى مستوى الثقافة الموسيقية العربية، متسلحاً باتقانه الفريد للغة الضاد.
شكلت رحلة حياة وعطاء فاهيه تمزجيان، نموذجاً مهماً في قيمة التزام المثقف والناقد بالنهوض في اعباء وجوانب مسؤولية فكرية حيوية، في مجال إبداعي اساسي بالمجتمع: (الموسيقى). إذ رحل عن 66 عاماً، تاركاً خلفه، نتاجاً فكرياً موسيقياً قيّماً.
مشوار حافل
بدأ فاهيه تمزجيان مشوار حياته، كصانع للنظارات الطبية، وامتهن ذلك رسمياً بعد ان كان ترعرع ودرس في دمشق. ولكن المطاف لم يطل به في هذه الطريق، إذ كان قلبه مملوءاً بحب الأدب والفنون بمختلف تلاوينها، وخصوصاً الموسيقى. فانكب في ظل هذا الميل.
وبينما كان يتابع اعماله الحرفية في صنع النظارات، انكب على القراءة والاستماع الى كل ما يقع تحت يديه، فيما يخص عوالم الموسيقى ومفرداتها، الأمر الذي اسهم عملياً في تملكه ملمح ركيزة ثقافية موسيقية مميزة، تقترن بذائقة فنية رهيفة.
شرع فاهيه في التعمق بتخصص النقد والتأريخ الموسيقي والفني، بجدية واهتمام، ولم تفلح جميع العقبات، في ثني عزمه على اتقانهما. وكان ذلك منذ منتصف السبعينيات في القرن الماضي.
فأخذ يكتب في الصحف والمجلات السورية المحلية، وكذا العربية، حول هذا المجال، معرفاً القراء بروائع وانواع الموسيقى العالمية، ومسلطاً الضوء على نقاط ورؤى نقدية بشأن الموسيقى العربية. ولم يفته دبج مقالات محددة، تتحدث عن أهم المؤلفين والعازفين العالميين.
وكذلك أهم الأعمال الموسيقية، شارحاً تفاصيل وحيثيات هذه الأعمال الموسيقية، وفق نهج حرفي سلس، أفرز قدرة القراء على استيعاب تلافيف وجوانب الموضوعات المطروحة، دون اية صعوبات تمليها طبيعة التخصص في تلك المقالات(الموسيقى). وقد استفاد فاهيه، في هذا السياق، من قدراته وامكاناته المميزة في مجال اللغة العربية، إذ اتصف اسلوبه اللغوي بالجزالة ودقة المعاني.
إعلامي مبدع
تغلغل حب اللغة العربية في عقل وروح فاهيه، بشكل لافت. وهو كثيراً ما كان يتحدث عن مقارنات ومقاربات بلاغية عالية المستوى، فيها. كما انه استمر في الإعراب عن مدى حبه للغة طه حسين، بالتوازي مع حديثه عن اعجابه بشفافية شيللر. إن هذه التفاصيل، وغيرها من الملكات والمهارات الفكرية الموسيقية واللغوية، اسهمت في أهلية فاهيه لتولي مسؤولية اعداد وتقديم برنامج موسيقي جاد بعنوان:
(لغة العالم)، كان يبث على شاشة التلفزيون السوري ـ وعلى اثير الإذاعة السورية، ومثل البرنامج الأكثر شهرة، والذي غدا بشهرته في سوريا والعالم العربي، خلال فترة تقديمه، النافذة الوحيدة على فضاءات الموسيقى الكلاسيكية في العالم.
قدم الرحل فاهيه في (لغة العالم)، الكثير من الأعمال الموسيقية، وفق منوال وشكل تدريجي مدروس، فنمى الذائقة والثقافة الموسيقيين لدى العرب، وزوّد مختلف الأفراد، بمعرفة شاملة حول التاريخ الموسيقي، فعند تقديمه لـ (الفصول الأربعة) للمؤلف فيفالدي، شرح العمل ببنيته وارتباطاته وظروفه ومميزاته، وطبيعة تركيبته الابداعية. وكذا فعل في تقديمه لسيمفونية موزارت رقم 40.
كما قدم فاهيه في حلقة مستقلة، السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، معرفاً بالأثر الثوري لهذا العمل في الموسيقى العالمية، كونه قلب أسس الموسيقى، ونقل ملمح دورها الى درجات التحول نحو الرومانسية في الموسيقى، والتي سهلت ولادة أعمال كثيرة، لم يغفل فاهيه أيضاً التعريف بها، في حلقات مستقلة ضمن برنامجه، مثل: السيمفونية غير المكتملة لشوبرت، كونشرتو التشيلو لشومان، كونشرتو البيانو لشوبان، السيمفونية السادسة لتشايكوفسكي.
كائن موسيقي
كانت مجالسة فاهيه، بمثابة جسر تواصل وحميمية، يتممه ويكلله تجسد تلك الجلسات معه، كحلقة فكرية نقاشية في عوالم الموسيقى، تمدنا بمعلومات ثرة ومتجددة في المجال. وقد كنت اعيش قصة متعة فريدة، في كل مرة كنت ازوره بها في مكتبه، للتحدث عن الموسيقى وهموم الفنون. فحلقات النقاش كانت تتمدد وتتنوع، وكنا ننكب على التباحث المعمق في عمل ما جديد، أو اخر قديم طرح بأداء جديد.
فكنا نتجادل بقوة، ومع كل محطة، كنت ازداد اعجاباً بسعة أفق وثقافة هذا الرجل. وكثيراً ما كان الراحل فاهيه، يستمر في سؤالي عن جديد كتاباتي أو قراءاتي في الموسيقى، وكنت افعل المثل لأعرف ما جديده. وجميع ذلك، رسخ لدي يقين الإعجاب والتقدير لهذا المبدع الذي اختار ان يكون متورطاً بجدية وعمق، دائماً وأبداً، في عالم الفنون وخاصة الموسيقى.
وقد امتلك الراحل فاهيه تمزجيان، مكتبة موسيقية كبيرة، كان يزدان بيته بها، وتضمنت اندر وأقدم وأبرز الاسطوانات الموسيقية العالمية.
إذ اشتملت على الاسطوانات القديمة (المصنوعة من الزفت)، طبقاً لتعبيره. وأيضاً اسطوانات تعود لفترة الاسطوانات ما قبل الليزرية. واشرطة بكر وأخرى عادية وأفلام بكر واشرطة فيديو، واقراص دي في دي.
أذكر حديثاً لي مع الراحل فاهيه، ذات مرة، كان حول موسيقى قداس للمؤلف الإيطالي فيردي، إذ أدهشني وفاجأني، ان فاهيه كان لديه نسخة من هذه الموسيقى النادرة. وأخذت أسأله عن كيفية حصوله على نسخة من تلك الموسيقى، فروى لي بشغف، كيفية وصعوبة حصوله على الأعمال المرئية لعرضها في برنامجه (لغة العالم).. إنها حقاً قصة شغف كبير بطلها مبدع موسيقي اخلص لموسيقاه،.
وتفانى في عمله، خدمة للثقافة الموسيقية التي لطالما كانت شغله الشاغل. طالما نالت شروحات وتحليلات فاهيه، في برنامجه (لغة العالم)، اعجاب المتخصصين وعامة الناس. وكنت شخصياً، كغيري من المتخصصين بالموسيقى، استفيد من تحليلاته بدقة وعمق، فأغتني بمدى حرفية وتميز رؤاه النقدية، ومعارفه الواسعة. وقد كانت ثقافته بمثابة سلسة فكرية موسيقية متاحة للجميع، بقيت تزدان وتتجمل في معالم جاذبيتها، بسمات صوته الرخيم وتقديمه المتزن الهادئ.
دور
بدأ فاهيه تمزجيان حياته المهنية في حقل الإبداع الموسيقي، كناقد وكاتب في الصحف والمجلات، في فترة منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وكان هذا المجال نادراً في الصحافة السورية والعربية، ولكنه، مع ذلك، كان دؤوباً على الكتابة، سواء عن الحفلات التي كان يحضرها، أو عن موضوعات موسيقية شائكة. والتزم بمنهج الأمانة العلمية في هذا السياق.
واذكر هنا انه كثيراً ما أصر على ان يتعرف على رأيي، وبتجرد تام، بشأن أعمال ابنه جان في التأليف الموسيقي. وأسهم الراحل فاهيه تمزجيان، في دعم وتطور الفرقة الوطنية السمفونية السورية بشكل كبير، إذ واكب مسيرتها منذ البدايات. وقد صوّر التلفزيون العربي السوري، أولى حفلات الفرقة في عام 1993، بتأثير الإصرار الكبير من قبل فاهيه، والذي بادر إثرها الى عرض أجزاء من تلك الحفلة في حلقات برنامجه.