رغم وقع الضجيج الذي تعيش فيه شوارع برلين في كافة فصول السنة، إلا أن ذلك لم يمنع بعض مناطقها من الاستمتاع بالهدوء الذي ظلت تحافظ عليه، رغم مرور مئات الزوار، في مناطقها كافة، والتي تمثل جزيرة المتاحف أبرزها، ويتقدمها متحف الفن الإسلامي، والذي يقع قبالة بيت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. ويشكل في طبيعة محتوياته وقيمته الحضارية، محور اهتمام فريد من قبل مختلف الجهات والهيئات.
لا يربط عشاق المتاحف في برلين، أهمية متحف الفن الإسلامي بكونه يقع قبالة بيت أبرز السياسيين الألمان، وإنما بأهميته التاريخية ومدى احتوائه على قطع تاريخية نادرة، كلها توثق لمنطقة المشرق العربي وما عاشته وحفلت به من ازدهار في أنماط الفنون والإبداعات والفكر ضمن الحضارة الإسلامية.
كغيره من المتاحف التي تنتشر في المنطقة ذاتها، تشهد بوابات متحف الفن الإسلامي ازدحاماً كبيراً من طلبة المدارس والجامعات وعشاق التاريخ والباحثين عن المعرفة، وما إن تلج من بوابة المتحف الذي احتفل أخيراً، بالذكرى المئوية لتأسيسه (أنشئ المتحف في الـ18 من شهر اكتوبر في العام 1904، على يد مدير دائرة متاحف الإمبراطورية الألمانية وخبير الأرشيف والدراسات الشرقية غليوم فون بوده)، حتى تشعر بمدى أهمية المكان الذي يلفه هدوء لافت رغم أن عدد زواره سنوياً يفوق 330 ألف زائر، 60 في المائة منهم من القادمين من خارج ألمانيا، خاصة من السياح العرب.
مؤسسة فريدة
يعتبر متحف الفن الإسلامي في متحف برغامون في برلين، أكبر مؤسسة فريدة من نوعها في ألمانيا، حيث يمتلك المتحف واحدة من أكبر مقتنيات الفن الأسلامي في العالم، ويضم نحو 50 ألف قطعة فنية من تراث الحضارة الإسلامية.
قصر «المشتى»
يكتشف زائر هذا المتحف، طيفاً واسعاً من الانتاج الثقافي لحضارات الشرق الأوسط، بدءاً من الزخرفة المعمارية، والفنون والأعمال الرفيعة، ووصولاً إلى المجوهرات والمخطوطات النادرة في فنها وخطوطها وزخرفتها، إلى جانب قطع أخرى توثق تطور الحضارة الإسلامية في منطقة المشرق العربي وكذلك أوروبا. فالآثار المعمارية وهي التي أحد أهم المعالم المميزة للمتحف تظهر مفاهيم العمارة والفضاء المكاني للبيئة في الثقافة الإسلامية.
حيث يمتلك المتحف واجهة ضخمة من قصر الخلافة المعروف باسم «المشتى» من الأردن، والذي يعد واحداً من أجمل إبداعات الفن الإسلامي التي يعود بناؤها إلى منتصف القرن الثامن. وتكمن مفاجأة هذه الواجهة في أنها كانت عبارة عن هدية شخصية من آخر السلاطين العثمانيين، السلطان عبد الحميد، للقيصر الألماني فيلهام الثاني. وقد شكلت هذه الهدية نواة أحد أهم متاحف الفن الإسلامي في أوروبا،.
ويبلغ عرضها 33 متراً، بارتفاع 5 أمتار، فيما يبلغ طول واجهتها الجانبية 144 متراً، ونقلت حينها عن طريق سكة حديد برلين ـ بغداد التاريخية. وعلى الرغم من صعوبة تصنيف بوابة قصر المشتى ضمن مرحلة تاريخية محددة، إلا أن المؤرخين يرجحون عودتها إلى العصر الأموي، وتحديداً مرحلة حكم الخليفة الوليد الثاني، في منتصف القرن الثامن، وتحمل الواجهة مجسمات لعصافير وحيوانات برية، وأخرى أسطورية وطيور جارحة.
محرابان للصلاة
يقتني متحف الفن الإسلامي، مكتشفات أثرية مهمة من عاصمة الخلافة الإسلامية، ضمن سامراء في العراق، والتي تدلل على أهمية سامراء في التجارة العالمية في القرن التاسع، كما يحتوي المتحف على نموذج لبوابة عشتار في بابل، وتضم مجموعة من القطع الأصلية، مثل قبة مسجد مدينة قرطبة الأندلسية.
ويوجد فيه محرابان للصلاة، أحدهما من كاشان في أيران، والآخر من قونية في تركيا. وهما يعودان الى القرن الثالث عشر، وفضلاً عن ذلك يضم المتحف غرفة استقبال تعود إلى أسرة مسيحية عاشت في مدينة حلب السورية في القرن السابع عشر، وهي منحوتة من خشب الصنوبر والسيراميك، ومزخرفة برسومات دقيقة ومتقنه، ويبلغ طول الغرفة 24 متراً. ولها 24 باباً خشبياً.
وزينت جدرانها وواجهتها الرئيسية بنقوش وزخارف شملت آيات قرآنية وأحاديث نبوية وقصائد من الشعر العربي القديم، وتنبع أهمية هذه القطعة الفنية التي وضعت في داخل غرفة زجاجية مغلقة، من كونها تمثل أقدم نموذج تم إنقاذه من الفترة العثمانية.
الحرب العالمية الثانية
رغم إغلاق المتحف في بداية الحرب العالمية الثانية عام 1939، إلا أن قسماً كبيراً من مقتنياته، خاصة السجاد الشرقي، تعرض للحرق والتدمير بتأثير الهجمات والغارات الأميركية والبريطانية على برلين، وقد أدى تقسيم الحلفاء لألمانيا بعد هزيمتها في هذه الحرب، إلى تقسيم المتحف أيضاً، إلى قسمين، أحدهما في برلين الغربية والثاني في برلين الشرقية. وأصبح الجزءان بعد توحدهما وهدم جدار برلين في العام 1989.
عاصمة واحدة لألمانيا الموحدة. وبعد سقوط جدار برلين وقيام الوحدة الألمانية استعاد المتحف وحدته، وأعيد افتتاحه بعد تجديده في يونيو 2001، وهو ما ارتقى به إلى مصاف المتاحف العالمية، مثل متحف اللوفر الفرنسي والمتحف البريطاني والمتحف الروسي ومتحف المتروبوليتان الأميركي.
يضم متحف متحف الحضارة الإسلامية في برلين، ثروة نادرة من الأعمال والتحف الفنية المتنوعة تمثل بلدان وعصور الحضارة الإسلامي المختلفة، في الفترة الواقعة ما بين القرنين الثامن والتاسع عشر للميلاد. وتضم المقتنيات، مصاحف نادرة كتبت بخطوط تمثل جميع مدارس الخط العربي، ومجموعة تاريخية كبيرة من السجاد الشرقي القديم، وعدة أعمال فنية عمرها مئات السنين مصنوعة من الخشب والسيراميك والمعادن.
السجاد الشرقي
للسجاد الشرقي مكانة رفيعة في المتحف، حيث يضم مجموعة من القطع النادرة، ويعود وجود أول هذه القطع الى فون فوده، مؤسس قسم الفن الإسلامي في متحف برغامون في العام 1904، والذي تبرع آنذاك بـ 26 سجادة شرقية تاريخية،.
وعلى ضوئها أسس أول قسم للدراسات والأبحاث الخاصة بالسجاد في المتحف الذي بات اليوم يمتلك واحدة من أشهر مجموعات السجاد الشرقي في العالم. yزائر المتحف يمكنه أن يستشف التأثيرات المتبادلة بين الفنون الأوروبية والإسلامية، وفيه اعتراف واضح بمآثر وأفضال الرواد الأوائل من الفنانين المسلمين على الفنون الأوروبية، قديماً وحديثاً، ووجود متحف الفن الإسلامي في برلين أدى إلى انتشار أقسام الاستشراق والدراسات الإسلامية في الجامعات الألمانية والأوروبية.
كما رفع من وتيرة اهتمام المواطنين الألمان والأوروبيين بشكل عام بالفنون الإسلامية التي نقلت إليهم نمطاً فريداً من الفنون تختلف في خصائصها عما ألفوه. ويعتبر البعض أن متحف الفنون الإسلامية في برلين، يلعب دوراً مهماً في تعميق حوار الحضارات، كونه يمثل قاعدة جيدة لتقوية الروابط الودية بين الغرب والعالم الإسلامي. وأيضاً في زيادة تقبل كل طرف منهما لثقافة وحضارة الطرف الآخر،.
كما أنه يتيح الفرصة لزواره المسلمين لرؤية التثمين الغربي الكبير لفنونهم وحضارتهم وتقريب الفنون الإسلامية للمواطنين الألمان والغربيين. ولعل أكثر ما يميز متحف الفن الإسلامي في برلين، امتلاكه واحدة من أهم المكتبات المتخصصة في علوم الفن والعمارة والآثار الإسلامية، كما يعمل فيه 5 باحثين دائمين.
ترميم وحفظ
لا يقتصر متحف الفن الإسلامي في برلين على أعمال حفظ المقتنيات فقط، وإنما يقوم أيضاً بأعمال الترميم والبحث والدراسة للذاكرة الثقافية للمجتمعات الإسلامية والتواصل معها، والتي تتناول في مجملها الحضارة الإسلامية الواقعة بين حوض البحر المتوسط والمحيط الهادي. وتشمل منتجاتها الثقافية والفنية، بدءاً من أواخر العصر القديم وحتى العصور الحديثة، ويقوم المتحف ايضاً، وبشكل دوري، بإقامة مجموعة من ورش العمل التي ينظمها في مجالات الحفظ والترميم، وهي تحظى بسمعة دولية جيدة.