الحروب التي حدثت في العراق، هي التي دفعت الصحافية إنعام كجه جي، كي تصبح روائية. إذ كان لا بد لها من إطلاق صرختها، كما تقول، كي يسمعها العالم كله.

ولم يمنعها عن ذلك وجودها في فرنسا، لمدة تزيد على أربعين عاماً، أثرت تجربتها الروائية بأشكال مختلفة، كشفت عن بعضها في حديثها مع مسارات. كما تطرقت إلى جانب، الطريق الجديد الذي فتحه لها تأهل روايتها الحفيدة الأميركية، إلى القائمة القصيرة في الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر، بعد إصدارات عديدة لها، حمل بعضها صبغة توثيقية، مثل: لورنا سنواتها مع جواد سليم.

 

ما سبب الحضور الطاغي والمستمر للعراق، في روايتك، على الرغم من سنوات الغربة الطويلة؟

في بدايات ذهابي إلى فرنسا، سنحت لي فرصة الالتقاء بالروائي الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، وكان، حينها، في فرنسا للمشاركة في لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائي. وكنت أنا أغطي المهرجان. فطلبت منه مقابلة.

ولكنه أخرج من جيبه قائمة فيها 37 اسماً لصحافيين طلبوا منه مقابلات، وبذا أدرجني ضمنها، فكان رقمي 38، وفهمت عندها أنه من غير الممكن تحقق مشروع الحوار ذاك.. ولكن في اليوم التالي، اتصل بي صباحاً، ودعاني إلى الفطور معه، وقال لي: قد تتساءلين لماذا تجاوزت الأسماء واخترتك.. لأنك من العراق.

ومن ضمن الأشياء التي سألته عنها، حينها: كيف استطعت، وأنت من بلد بعيد نسبياً، أن تصل الى العالمية؟. فرد: ليست هناك صفة اسمها العالمية.. ربما تكتبين بشكل محلي عن قرية في منطقة نائية في بلادك وتعيشينها جيدا، وهذا يوصلك إلى العالمية، فالعالم يريد أن يعرف التجارب البعيدة والمختلفة.. بقيت هذه الكلمات في راسخة ذهني. ومن المحتمل هنا، أن جميع الذين تركوا العراق، فعلوا ذلك مرغمين، فنحن لسنا أبناء هجرة، وشعبنا لم يعتد الهجرة.

وما حصل من حروب وفوضى، أجبر الناس على المغادرة، فليس من السهل مغادرة بلد نعيش فيه جيدا، والذي يهاجر يشعر دائما بنوع من تأنيب الضمير، وكأنه سلخ عن المكان الذي يطيب له العيش فيه، والعراق لم يغادرني، بل بقي معي. وكصحافية كنت أكتب عن النشاطات العربية، وأسافر كثيرا.. ولكن، عندما كنت أكتب عن فنان أو سينمائي عراقي، بقيت أشعر وكأنني أكتب بشكل أفضل.

 

بين الصحافة والرواية

ما السبب في كونك تكتبين بشكل أفضل في مثل تلك الحالات؟

ذلك لأنني أفهم هذا المبدع الذي هو من أبناء بلدي، وكذا هو يفهمني. وأيضا أعرف بأية حرقة يعبر. وأعي طبيعة ما واجهه من آلام وصعوبات، وما تجاوزه من عراقيل كي يصل إلى ما وصل إليه. ويمكن أنه لولا الحروب والاحتلال الأميركي للعراق، لما أصبحت روائية، لأني كنت صحافية طوال أربعين عاماً، مكتفية بعملي في ذاك الحقل. إلا أنه حدثت هناك هزة أرضية أصابت بلدي.

فشعرت أنه من حقي أن أصرخ، وأن أقول صرختي الخاصة عما يحدث، خاصة وأن التقارير الصحافية والتغطيات الخبرية لم تكن تكفيني في هذا الصدد. بذا أحسست أنه لا بد لي من تسجيل ما أريد قوله، من خلال رواية. رغم ذلك، فإنني، وإلى الآن، لا أعد نفسي، روائية، بل أرى أنني هاوية رواية.

لماذا لا تعدين نفسك روائية بعد كل هذه الإصدارات؟

بعد كل هذا العمل في المطبخ الصحافي، ستكون الكتابة ميسرة للصحافي، أكثر من غيره. فالقلم يتحرك بسرعة.. ثم عندما لاقت روايتي أصداء، أسعدني ذلك، كما وضعني أمام مسؤولية جديدة، كذلك.

كان لديك بعض الكتب التي تحمل طابعاً توثيقياً، فكيف تناولت مثل هذا الجانب؟

أنا عشت في ظروف كان فيها العراق، وكانت بغداد مدينة وارفة تلقي بظلالها على أهلها وعلى الغرباء الذين يأتون إليها. كما أؤمن أن المرأة العراقية جبارة، لا ترفع الصوت عالياً للمطالبة بحقوقها ولكنها حاصلة على هذه الحقوق.

ووجدت أن الصور الجميلة التي أعرف، تكاد تنقلب لتحل محلها صور قاتمة. وهكذا شعرت أنه من واجبي أن أكتب عما شاهدت ومن قابلت، ومن عرفت، ذلك سواء لورنا البريطانية التي تزوجت جواد سليم وعاشت في بغداد في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. أو الدكتوره نزيهة الدليمي أول وزيرة في العالم العربي (سنة 1959).

وكان هناك شاعرات عديدات، مثل : لميعة عباس عمارة. ورسامات أيضا: سعاد العطار. ومذيعات وإعلاميات: الراحلة فيكتوريا نعمان (كانت أول من من قرأت نشرة أخبار في الإذاعة العراقية خلال الأربعينيات من القرن الـ20).. إن هذه الصور رحل بعض صاحباتها، وأخريات سيرحلن إلى لقاء ربهن.. ولكن لا مراجع تتحدث عنهن. وهنا تكمن أهمية ما أعنى به. فمثلًا، الدكتورة نزيهة الدليمي لا توجد وثيقة مصورة، واحدة، عنها، رحمها الله. ولهذا أخذت كاميرتي، حينها، وذهبت إليها في ألمانيا.. وهنا يهولنا العلم بأنها كانت سيدة منفية منذ خمسين عاماً.

وأتشرف بأني صورتها قبل وفاتها بأشهر قليلة. وهناك وثيقة اليوم تروي فيها حياتها، بينما كانت تجلس في مطبخها، وهي امرأة في الثمانينيات من العمر، حينها.. حاسرة الرأس.. تتحدث بمنتهى المحبة حول: كيف ركبت الباص الأحمر المؤلف من طابقين، وكيف ذهبت لتصبح وزيرة، إذ إنها، وهي الطبيبة آنذاك، لم تكن تملك ثمن ركوب الحافلة، فذهبت إلى وزارة الدفاع لتقابل عبدالرحيم قاسم، الذي جعل منها وزيرة. إن هذه الصور تبدو كألبوم قديم، بالأبيض والأسود، وهو من ذلك الطراز الذي يتوارثه الأبناء عن الأجداد.

 

شخصيات روائية

هناك جانب توثيقي شخصي لهذه المقابلات. فكيف حصلت على ما تحتاجين من معلومات تصنف في خانة الخصوصية؟

كنت آخذ الوثائق وأشتغل عليها، أدبيا وتوثيقا. إن ذلك يتأتى لنا بانسيابية وعفوية، نحن العاملون في الصحافة، إذ إنه بعد عمر محدد، ممكن أن يكتب الصحافي أدبا كونه صاحب أسلوب خاص. ولم لا يفعل؟ فهو وضع في مكانة تؤهله إلى ذلك.. وبناء عليه كان لا حرج أو عائق أمامه في أن يستفيد من الفرصة.

ففي جارور كل صحافي، وثائق ومعلومات عن شخصيات عديدة التقاها، وبعضها ذكرها بشكل عابر في تقاريره ومقابلاته. وبعضها الآخر لا يزال ينتظر فرصة للإدلاء برأيه.. إن هذه الشخصيات التي في الجوارير هي التي تصنع الروايات والقصص.

في رواية الحفيدة الأميركية التي أهلتك للوصول إلى القائمة القصيرة للبوكر العربية، تحدث الكثيرون عن حضورك بشكل غير مباشر.. فما ردك؟

تصور البعض أنني أتكلم عن نفسي، مع العلم أن الحفيدة الأميركية هي في نصف عمري، وهي أميركية وأنا لم أقم في أميركا طوال حياتي، ولكن قبل كتابتي الرواية، حرصت على أن أذهب إلى أميركا، وأن أجمع الوثائق، وأسأل أناساً يعرفون عن موضوع ما أكتب. وتوخيت الدقة في أن أتعرف بالضبط على تفاصيل ما سأحكي عنه.. ب

التأكيد كانت هناك شخصيات عراقية مطابقة.. ذلك مثل الجدة التي ربما أنها تشبه والدتي، أو تشبه عماتي، فأنا أكتب عمن التقيت ومن أعرف، وعن الأجواء التي عشتها.. وعن الروائح التي شممتها والمذاقات التي خبرتها، ربما لهذا السبب جاءت الرواية شبه حقيقية، وهي بالفعل، ليست حقيقية، وإنما من نسج الخيال.

هل كانت تلك هي المرة الأولى التي تتقدمين فيها إلى الجائزة العالمية للرواية العربية؟

نعم كانت الأولى والوحيدة، فناشرتي: رشا الأمير، صاحبة دار الجديد في بيروت، هي من اقترحت علي الفكرة، فتقدمت بالرواية وكانت الجائزة، حينها، في دورتها الثانية، وذلك قبل أن نسمع عنها في باريس ونعلم آليات التقدم إليها. وكنت قد تصورتها نوعاً من المغامرة، وذات يوم أخبرتني الناشرة أننا في القائمة القصيرة، وكانت مفاجأة جميلة لي فتحت لي آفاقاً للمشاركة في ندوات كثيرة. كما أن جائزة البوكر نفسها، تنظم جولات ولقاءات في الجامعات. ولقيت روايتي حظاً وفيراً في الترجمات، فنقلت إلى الإنجليزية.

والصينية أيضاً.. ألم يكن يصلك صدى ترجمة روايتك إلى هذه اللغة؟

لم يصلني أي انطباع، فمنذ أكثر من شهرين نشرت في الصين، عندما وصلتني خمس نسخ من الرواية، أخذت إحدى النسخ وذهبت إلى المركز الثقافي الصيني في باريس وأهديت نسخة إلى مكتبة المركز.

لديك بعض النصوص بالفرنسية، فماذا تكتبين بتلك اللغة؟

أنا لا أكتب بالفرنسية، هناك نصوص كتبتها للفرنسيين وترجمت إلى الفرنسية. أنا فقط أكتب بالعربية، وأحياناً بالانجليزية عندما يطلب مني رأي حول بعض الأشياء، ولكن الكتاب الذي صدر بالفرنسية كان موجهاً الى الفرنسيين أنفسهم، وبذا ترجم الى لفرنسية، ولم تصدر منه نسخة عربية، إنما كتبته ليترجم الى الفرنسية لأني أردت ان يعرف العالم الظروف التي يشتغل بها الكاتب العراقي، أو الكاتبة العراقية بالتحديد، وكيف أن هؤلاء سربوا الحسرة والحزن واليأس إلى كتاباتهم، خلال الفترة الصعبة التي مر بها العراق.

متى تكتبين وما الأجواء التي تحيطك؟

ليس لدي ما يسمى بطقوس أو أجواء، فأنا منشغلة بالكتابة والاعمال المنزلية، في آن معاً. وذلك كأي ربة منزل أو أم. وبذا ليس لدي أي طقس.. إن الطقس الوحيد الذي أتمناه هو أن يتوفر لي الوقت من العمل في الصحافة، كي أنجز أعمالي الروائية.. أنا أنام وأصحو مع روايتي.. عندما أحصر نفسي بشهرين أو ثلاثة للكتابة عادة ما أنجز الكتاب.

 

حضور نسائي

ما الصعوبات التي تواجهها الروائية العربية؟

هناك حضور طاغٍ للروائيات العربيات، وأظنها غلبة لهن على نظرائهن الروائيين، والكثير من الصحف الجيدة تختار الحديث عن تجارب نساء في هذا الخصوص.. نحن العرب (رجالاً ونساء)، للأسف، متساوون أمام الممنوعات والحواجز، ولكن المرأة الكاتبة، جريئة أكثر. وهناك روايات مهمة صدرت عن كاتبات جريئات، في لبنان وفلسطين والمغرب العربي ومصر وفي السعودية واليمن. وهذا مؤشر على التململ والرفض لوصايات كثيرة داخل الأسرة وخارج الأسرة، في مجتمعاتنا. مع العلم أن الوصاية داخل الأسرة أهون الشرور.

.. وماذا عن الصعوبات التي واجهتك شخصياً، كامرأة؟

أنا كتبت بعد أن تجاوز عمري الخمسين عاماً، فلم يكن هناك أمور تضغط علي أو تخيفني.. كما أنني أقيم خارج العالم العربي، وكنت أفكر أحيانا عندما تأتي بعض المشاهد في الرواية في: هل أذكرها أم لا؟ وأذكر أنني استشرت زوجي، بينما كنت أكتب روايتي الأولى سواقي القلوب، بخصوص مشهد معين. إذ سألته: هل تظن أنه من المناسب أن أتطرق إلى هذا أم لا؟.

 فأجابني إجابة جميلة جدا: بعد هذا العمر قررت أن تكتبي رواية، فإما أن تقولي ما تريدين، أو ليس من داع للكتابة. فاعتبرت أن هذا ضوء أخضر. وبذا كتبت بانطلاقة تامة. مع العلم أنني لست من النساء المتبجحات، بل أنا متحفظة في بعض القضايا وجريئة في أخرى.

هناك بعض الروائيات كان حضور الجنس في رواياتهن، أو لنقدهن المجتمع، طريقاً للشهرة.. ما رأيك في هذه الظاهرة؟ هذا يعود الى طبيعة وعي كل واحدة منهن، فقط أعطني نصا فنيا مكتوبا بشكل جيد وليكن فيه الكثير من التمرد. وأما إذا كان هناك تمرد وجرأة وفضائح، بينما النص هزيل أو ضعيف، فلا أظن أن القارئ، سواء أكان عربياً أم غربياً، سيقدره.

 

قراءات

كيف تلخصين تجربتك الصحافية؟

أنا صحافية متعلقة جداً بمجال عملي. فهذه المهنة أحببتها منذ الطفولة، ويقال إني شابهت خالي. فخالي كان صحافياً، وذلك رغم أنه قتل قبل ولادتي.

أحببت الصحافة منذ البدايات، ودخلت قسم الصحافة في جامعة بغداد، ومن ثم واصلت العمل منذ سنوات الدراسة.

حصولك على الدكتوراه ماذا أضاف لك؟

لم يضف شيئاً.. إنها فقط كانت باباً وسبباً لإكمالي الدراسة سعياً وراء البحث عن أفق اوسع.. كنت أعرف مسبقاً بأني لن أستفيد منها. ولكن بالتأكيد، المشاركة بالمحاضرات ومقابلة أساتذة ومناقشة موضوعات إعلامية في فرنسا، أمور كانت مثمرة وغنية، بالنسبة إلي، ولكن على الصعيد العملي، كنت وسأبقى الصحافية، وبذا فإن الشهادة لم تغير شيئا.

لمن تقرئين؟

أقرأ كثيراً، وبشكل غير محدد. ولكن في السنوات الأخيرة، أصبحت اكثر انتقائية، لأن الوقت ضيق، وعندما أبدأ بكتاب ولا أشعر أنه يقول لي شيئا من الصفحات الأولى، فإني أضعه جانباً، وأركز كثيراً على قراءة كتب السيرة، كما تستهويني المذكرات، سواء السياسية أو الاجتماعية، فهي ما تجعل تاريخنا يستقيم، لأنه في السابق كان التاريخ هو ما تكتبه الأنظمة.. التاريخ الاجتماعي سواء كتبته طبيبة قديمة أو يكتبه وزير سابق أو مدير البنك المركزي أو شخص عالج رئيساً معيناً، فهو يلقي الضوء على نمط حياتنا ويرينا الصور المظلمة للتاريخ السياسي، أو الذي تتلاعب به الأيدي دائماً.

هل تفكرين بكتابة مذكراتك؟

نعم.. عندما أتقاعد.

 

السيرة الذاتية

 

إنعام كجه جي. روائية وإعلامية وكاتبة عراقية، تقيم في فرنسا منذ عقود. وهي تعمل في مجالي الصحافة والترجمة.

درست الصحافة والإعلام، وعملت في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، قبل أن تنتقل إلى فرنسا عام 1979، إذ نالت درجة الدكتوراه من باريس، ولا تزال تعيش هناك.