الخميس 19 رجب 1423 هـ الموافق 26 سبتمبر 2002 شكلت الحروب الصليبية جزءا مهما من تاريخ العصور الوسطى للشرق والغرب على حد سواء. فهذه الحروب التي امتدت لفترة قرون، وأخذت طابع الحملات المتفرقة، تعاقب عليها الكثير من الحكام والملوك والأمراء وكبار القادة في الجانبين، ولكن كان القاسم المشترك بين تلك الحملات والصراعات ديني الطابع والعقيدة، وتمثل في إخضاع مقدسات المسلمين، وبخاصة بيت المقدس، إلى ما يسمى بحكم الغرب الصليبي وفرض سياسة الأمر الواقع بالقوة المسلحة الغاشمة، وبالتعصب الديني الأعمى . ويعد الكتاب الذي نناقشه هنا من الكتب القليلة، إن لم تكن النادرة، التي تعالج هذا الموضوع الثري من أهم زواياه، وأسدت لنا الكاتبة خدمة جليلة باطلاعنا نحن العرب على شطر في غاية الأهمية من تاريخنا، ومن خلال مصادرنا التاريخية التي كانت المكتبة العربية تزخر بها ذات يوم من الأيام، وفي زمن كثر فيه الأدباء والمؤرخون والكتاب والمفكرون. وهكذا فإن الكتاب أشبه ما يكون في طرحه وإخراجه الرائعين بالموسوعة منه بالكتاب بسبب عدد صفحاته وحجمه الكبير، ناهيك عن المئات من الخرائط والصور والرسومات الرائعة التي زينت صفحاته بشكل غاية في الروعة. وعلاوة على ذلك، فإن المؤلفة، وهي أستاذة في التاريخ في جامعة أدنبرة، قد بذلت جهدا يستحق الثناء والإشادة، حيث اطلعت على عدد كبير من المصادر التاريخية العربية والإسلامية التي تناولت هذا الموضوع، قديما وحديثا، وسعت إلى طرح ما أمكن حول ذلك الجزء المهم من التاريخ الذي جمع بين الغرب والشرق، أو بين الصليبيين والمسلمين، في صراع أمتد ردحا من الزمن طويلا كانت الغلبة في نهاية المطاف للمسلمين بفضل الشجاعة والعقيدة والبسالة التي ضرب بها العرب أفضل الأمثلة على مرور التاريخ. الدوافع والمسببات تعرف المؤلفة الحروب الصليبية بسلسلة من الحملات، التي تبلغ ثماني حملات في أقل الاحتمالات شنت بدافع ورغبة المسيحيين الأوروبيين الغربيين لاخضاع الأماكن المسيحية، وبخاصة بيت المقدس كما تدعي المؤلفة، تحت حماية المسيحيين. وهذه الحملات، من المنظور الغربي، استمرت منذ العام 1095 عندما دعا البابا أوربان الثاني المسيحيين إلى حمل السلاح حتى القرن الخامس عشر أو ما بعده، على الرغم من أن الكثيرين يرون سقوط عكا في عام 1291 نهاية للنشاط الصليبي ضد المسلمين في بلاد الشام. تطرح المؤلفة عند الحديث عن الأسباب التي كانت وراء قيام الحملات الصليبية، القول بأن الدوافع كانت في المقام الأول انسانية، وليست دينية، لتخالف بذلك بعض الشيء وتناقض نفسها، عندما أشارت في مقدمة الكتاب إلى سعي البابا اوربان الثاني إلى حماية المقدسات المسيحية. وتقول إن احتكاك الغرب الأول مع المسلمين كان راجعاً لما تصفه بالسياسات التوسعية «الفتوحات» التي لجأت إليه الدولة الاسلامية الفتية في أعقاب وفاة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث وصل المسلمون بعد مئة عام إلى جبال البيرنزو فتحوا الأراضي الممتدة بين شمال الهند إلى جنوب فرنسا. وعلى مدى القرنين التاليين جنحت موازين القوى لصالح المسلمين الذين تمتعوا بتفوق اقتصادي هائل في حين ازدهرت الثقافة والتراث الاسلاميان بشكل غير مسبوق. ومنذ العام 750 شرعت العناصر غير العربية تمتزج بكيان وهيكلية الدولة العباسية، وبخاصة الاتراك، وبدأت مظاهر الهزال والتفكك والانقسام السياسي تبدو جلية على مظاهر الدولة العباسية، وعاصمتها بغداد، في القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي، فمالت كفة التوازن في هذه المرة لصالح الأوروبيين الذين بدت قوتهم تظهر في البحر المتوسط وفي إسبانيا. وهكذا حقق الأوروبيون سلسلة من النجاحات والانتصارات البحرية في صقلية وطليطلة بينما شن البيزنطيون، المجاورون للعرب، عدة غارات ناجحة على شمال سوريا في أواخر القرن العاشر وسيطروا على بعض المدن لفترة وجيزة. وإبان القرون الأولى من الحكم الإسلامي، لم تلق رحلات الحج المسيحية،كما تذكر، أي صعوبة أو مضايقات، حيث كانت هذه الرحلات تسير برا عبر البلقان والأناضول وسوريا، أو بحرا صوب مصر أو فلسطين. وبعد أن كانت الأخبار ترد إلى أوروبا حول نمط الحياة المتطور والإنجازات الثقافية المميزة للمسلمين، علم البابا والأوروبيون أيضا، خاصة في القرن الحادي عشر، بضعف الدولة الإسلامية وتشتتها سياسيا. وكان الأهم من ذلك كله الشائعات المتعلقة بسلوك أحد الحكام العرب، الخليفة الفاطمي السادس، كما تدعي المؤلفة، الحاكم بأمر الله، واضطهاده المزعوم للمسيحيين في دولته التي كانت آنذاك تمتد في ما بين سوريا وفلسطين، وترى كارول هيلينبراند بأن تصرفات الحاكم كانت أحد المسببات المهمة التي جعلت الحكام والملوك الأوروبيين يدرسون بجدية شن مثل هذه الحملات على الدولة الإسلامية. الحملة الأولى كانت الحملة الصليبية الأولى، كما توضح المؤلفة، تحت قيادة مختلطة اشتملت على ريموند من تولوز وبوهيموند من صقلية، وجودفري من بولونيا، حيث حققت هذه الحملة انتصارات مهمة في طريقها عبر الأناضول. وتمكن الفرنج من فتح العاصمة السلجوقية في يونيو عام 1097 وأنزلوا خسائر فادحة في الجيش السلجوقي. وفي تلك المرحلة أيضا تمكن الصليبيون من إحتلال بيت المقدس في عام 1099 ليكون القائد جودفري أول حاكم صليبي للمدينة. وفي الحقيقة تم تشكيل أربع مناطق للصليبيين في منطقة الشرق الأدنى، وهي بيت المقدس والرها وانطاكية وطرابلس. وأخفقت تلك الحملة في إحتلال مدينة دمشق، ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة. وعندما جاءت الحملة الصليبية الثانية تبني القائد نور الدين زنكي سياسة قوية الأركان تدعمها دعوة للجهاد. وعملت طموحاتها القوية على توحيد مصر وسوريا ومحاصرة ما يبقى من دولة الفرنج، بدءا من انطاكية . وكان لتحرير وتعرض انطاكية للضغط الاسلامي قد دفع الحكام الغربيين إلى القيام بالحملة الصليبية 1147-1148 تحت قيادة الإمبراطور الألماني كونراد الثالث والملك الفرنسي لويس السابع. وكانت هذه الحملة، كما تنعتها المؤلفة، إخفاقا تاما، بعد أن فشلت في فتح دمشق، أو إعادة احتلال الرها، أو حتى مواجهة قوة القائد الإسلامي نور الدين زنكي. وفي المقابل تمكن هذا الاخير من فتح دمشق في عام 1154 وجعل من نفسه القائد العام لسوريا. وبعد ذلك اتجهت أنظار نور الدين وكذلك الصليبيين صوب مصر وإلى الحكم الفاطمي هناك الذي دب فيه الوهن والهزال من الداخل. وأرسل الجيش الإسلامي بقيادة القائد الكردي اسد الدين شيركوه حيث منع الصليبيين في ما بين 1168-1169 من احتلال مصر. وبعد وفاة القائد شيركوه في عام 1169 تبوأ قيادة الجيش الإسلامي ابن أخيه القائد صلاح الدين الأيوبي حيث تمكن من السيطرة على الدولة الفاطمية في مصر، التي وصلت الى نهايتها في العام 1171. وتشير المؤلفة إلى أن القائد صلاح الدين الأيوبي قد بات من أقوى القادة المسلمين الذي تصدوا للحملات الصليبية، وعمل في ما بين السنوات 1174 و1187 على إيجاد جبهة موحدة في مصر وسوريا ضد الصليبيين. وفي عام 1187 قاتل الصليبيين بقيادة الملك جاي لوزينيان في معركة حطين الشهيرة في الرابع من يوليو، حيث حقق نصرا مظفرا في تلك المعركة، بلغ أوجه بتحرير بيت المقدس في 2 أكتوبر عام 1187. وهكذا تمكن صلاح الدين من تأسيس دولة متينة الأركان والبنيان ولم تتبق سوى أجزاء بسيطة من المملكة اللاتينية في بيت المقدس تحت الحكم الصليبي. وترى المؤلفة أن اندحار الصليبيين والنصر المظفر الذي حققه القائد صلاح الدين في معركة حطين كان الدافع الأساس للحملتين الصليبيتين الثالثة والرابعة، حيث شن ثلاثة من أقوى الملوك الأوروبيين في حينها، وهم فريدريك برباروسا من الإمبراطورية الرومانية وفيليب ملك فرنسا وريتشارد قلب الأسد الحملة الثالثة التي بدأت بمهاجمة الصليبيين لعكا التي خضعت لسيطرتهم في العام 1191. وبالرغم مما حققه الصليبيون، وفقا لما يذكره الكتاب، من إنتصارات في تلك الحملة، فإن الأمور قد آلت إلى عقد هدنة في عام 1192 ، تمت الموافقة بموجبها على تسليم الفرنجة الجزء الأكبر من الشريط الساحلي بينما بقيت بيت المقدس تحت السيطرة الإسلامية. وبعد عام على الهدنة توفي القائد صلاح الدين، الذي حقق الكثير من الإنجازات كالانتصار المظفر في معركة حطين، وتوحيد مصر والشام على الرغم من بقاء بعض أجزاء بلاد الشام تحت سيطرة الصليبيين. الحرب في بر مصر بعد العام 1193 ركز الصليبيون اهتمامهم على مهاجمة مصر، لأنهم رأوا فيها أفضل السبل والمنافذ للسيطرة على بيت المقدس فيما بعد. وهكذا كانت مصر الهدف الأول في الحملة الصليبية الرابعة عام 1202، والتي قادها في هذه المرة القائدان بونيفاس دي مونتفيرار وبالدوين التاسع. وتمخض عن هذه الحملة فشل ذريع، كسابقاتها، فما كان من القائد بالدوين، الذي تنعته كارول بسييء السمعة، الا أن لجأ إلى اقتحام القسطنطينية عوضا عن ذلك في أبريل عام 1204. وفي هذا الفصل تطرح المؤلفة جانبا رائعا يستحق الإشادة. وتقول بأن المسلمين الذين كانت لهم اليد الطولى بعد وفاة القائد صلاح الدين لم يضغطوا كثيراً على الفرنجة لإجبارهم على العودة من حيث أتوا، وفضلوا أن يعاملوهم كملوك يعقدون معهم الأحلاف السياسية والمعاهدات التجارية. وباتت السياسة التي تبعها القادة الأيوبيون في مصر وسوريا وبلاد ما بين الرافدين في التعامل مع هذه الدول والأقاليم كفيدرالية، وليست سياسة ذات طابع مركزي، مما مهد، كما تشير المؤلفة، إلى بقاء الدول الصليبية. وعندما طغت النزاعات الداخلية، بدلا من أن تتجه صوب التركيز على محاربة الصليبيين، شرع ميزان القوى يميل نحو التوازن من دون فارق بارز بين الطرفين. ويممت الحملات الصليبية التالية صوب مصر، خلال ما تبقى من الحكم الأيوبي، في وقت شكل المغول تهديدا أكبر إلى المسلمين من تهديد الصليبيين الذي سعوا للتحالف مع هذا العدو الجديد ضد المسلمين. وعندما بدأت الحملة الصليبية الخامسة كان القائد الإسلامي هو الملك العادل، شقيق القائد صلاح الدين. وشرع الصليبيون بالوصول إلى مصر في عام 1218 حيث نزلوا إلى دلتا النيل واستولوا على جزء من دمياط في السنة التالية. وعندما توفي العادل في السنة ذاتها، خلفه ابنه الكامل الذي تمكن من إستعادة دمياط في العام 1221. وفي العام 1228 وصل فريدريك الثاني في حملة صليبية إلى فلسطين. وفضل القائد الأيوبي، بسبب الصراعات الداخلية، إبرام معاهدة سلم بموجبها بيت المقدس وبيت لحم إلى فريدريك. وفي عام 1244 أعاد جنود من منطقة خوارزم في وسط آسيا مدينة بيت المقدس إلى السيطرة الإسلامية مستفيدين من الضعف الذي دب في المدينة في تلك المرحلة. واستمر تدهور الفرنجة على الرغم من الحملة الصليبية التي باشر بها لويس الرابع وسيطر من خلالها على دمياط في عام 1249 وتقدم صوب القاهرة. وبعد الإطاحة بالأيوبيين وتولي المماليك لسدة الحكم في مصر في عام 1250، بدأت الحملات الإسلامية المضادة للصليبيين واتخذت الخطوات العملية لازالتهم نهائياً من الشرق الأدنى. وفي تلك المرحلة، كما تذكر الكاتبة، تمثل الخطر الأعظم في ظهور قوة أخرى فرضت نفسها بشكل كبير على الساحة السياسية. وتمثلت تلك القوة بالمغول الذين كانت أهدافهم الرئيسية في إزالة الحكم العباسي وتحطيم الحشاشين وتدمير مصر. بيد أن المماليك حققوا إنتصارا ساحقا على المغول بقيادة هولاكو في معركة عين جالوت، في الوقت الذي بات جل إهتمامهم مجابهة الصليبيين. وكان السلطان المملوكي الظاهر ببيرس، القائد ذو الإرادة والتصميم الحديديين، الشخصية الرئيسية التي بدأت عملية إزالة الفرنج. وبعد أن أفلح في توحيد سوريا وفلسطين، لم يفعل الصليبيون شيئا ازاءه. وهكذا شن القائد بيبرس ثلاث حملات كبيرة، وفتح في ما بين الأعوام 1265-1271 العديد مما كان الفرنجة يسيطرون عليه، بما في ذلك انطاكية في عام 1268. واستمرت تلك النجاحات والإنتصارات فيما تلى من قادة المماليك، حيث تمكن السلطان الأشرف من تدمير كل ما كان تحت سيطرة الفرنج، وبلغت حملته أوجها بسقوط عكا في 18 مايو 1291، وهو الحدث التي ترى المؤلفة فيه نهاية لحكم الفرنج في بلاد الشام وتخليهم عن كل ما كان تحت نفوذهم. أهمية الحروب الصليبية تستحق الفصول الأخيرة من الكتاب الذي نناقشه هنا الوقوف على بعض تفاصيلها وسرد ما حاولت المؤلفة عرضه أو إثارته. وتسلط الكاتبة الضوء على المراحل التي كان السلام والهدنة الطابع المهيمن. خلالها وقد تخلل تلك الفترات العديد من الأحلاف التجارية والتبادلات الثقافية، حيث سعى الكثير من الفرنج إلى الإطلاع على الثقافة العربية وتعلم اللغة العربية، في حين لم يظهر العرب أية رغبة في تعلم لغاتهم. وتأثر الفرنج أيضا بالطابع المعماري الإسلامي الذي كان بحق مثاراً لإهتمام الكثيرين منهم. ومع ذلك، تشير المؤلفة، إلى أن الإستعدادات للحرب كانت هي الطابع العام لتلك الفترات، التي كانت أشبه بالهدوء الذي يسبق العاصفة. ويلقي الكتاب الضوء على طريقة الإستعدادات وطبيعة التحصينات والقلاع التي تذكر المؤلفة بأن أحد الأساليب التي جلبها الغرب في القتال وأدهشت المسلمين كثيرا. وفي الفصل التاسع والأخير من الكتاب تطرح الكاتبة رأيها الشخصي، في مسعى منها لربط الماضي بالحاضر من خلال إبراز تأثير الحروب الصليبية في الشرق، وفي العالمين العربي والإسلامي على وجه الخصوص. وتشير الى ان تلك الحروب قد تركت تأثيراتها الواضحة وبصماتها الجلية في نمط وتفكير العرب إلى درجة بارزة من الصعب التخلي عنها أو نسيانها. وفي الحقيقة فإن هذه هي أحدى النتائج التي خلصت إليها المؤلفة عبر ما استشفت أنه التيار السائد الذي يسعى إلى إبرازه جملة من الكتاب العرب، ككتابي سيد قطب، «معالم على الطريق» و«في ظلال القرآن» وأفكار حزب الله وحماس وحركة التحرير الإسلامي. وشخصيا لم أجد أي قاسم مشترك يجمع بين كل هؤلاء من الأفراد والمجموعات لما يتعلق بالحروب الصليبية، الا اللهم القول بأن إسرائيل، وما تمثل من صورة حقيقية للاستعمار، هي العامل المشترك الذين وجدوا فيه البديل الحقيقي لكل تلك الحملات، والوريث غير الشرعي لتلك المساعي الاستعمارية. أما الأمر الثاني الذي تذكره المؤلفة، فهو أن العرب، المنتصرين في تلك الحروب، قد باتوا الخاسرين حاليا، في حين أن الغرب، الذي خسر الحروب الصليبية، بات المنتصر الحقيقي في العصر الحالي. ولا أدري بأي مقاييس تعتبر الغرب منتصرا، فهل ترى في التقدم التقني أو الأفضلية الإقتصادية للغرب هي السر وراء هذا الإنتصار الموهوم. وهذا الإنتصار لا يقاس على أساس الناتج القومي أو على أساس قدرات التسلح، بل من خلال جملة من العوامل التي يلعب فيها العامل الأخلاقي والإجتماعي دورا لا يمكن تجاهله أو إغفاله. فالنصر الحقيقي للغرب، إن شاءت الكاتبة أن تراه أو تصفه، لم يأت نتيجة للدروس التي استفاد منها من ماضي الحروب الصليبية، وآثارها، بل ربما تكون الجغرافيا من أهم العوامل التي أسهمت في ريادة الغرب مثل هذا الموقع حاليا. وسعت المؤلفة كذلك للتركيز على العقلية العربية بوصفها العقلية التي لا تتغير وترفض مثل هذا التغيير. وترى ذلك من خلال التركيز على شخصية القائد صلاح الدين، الذي تقول عنه بأن العديد من الزعماء العرب يحاولون تقليده، وأن الكتب المدرسية تتطرق إليه بشكل موسع، في الوقت الذي باتت معركة حطين في نظر العديد من العرب أبرز المعارك التي خاضها المسلمون. وفي الحقيقة فإن ما لا يدركه الغرب على العموم، أو ربما يتجاهله متعمدا، هو أن تمجيد العرب للتاريخ وللأجداد، على وجه خاص، هو جزء متأصل من التراث والتقاليد والإعتزاز بالماضي. ولا يقوم أبدا على أساس رفض الواقع أو محاربته، فهو امتداد له وتواصل معه، ولولا الماضي لما كان الحاضر. أما بالنسبة لشخصية صلاح الدين، فقد كان العامل الأساس في رسم صورته الإسطورية بين العرب، القادة والشعب على حد سواء، خاصة في ظل بقاء الإحتلال الصهيوني جاثما على تلك الأرض المقدسة، وفي ظل حاجة العرب إلى مثل هذا القائد البطولي لإنقاذ فلسطين وبيت المقدس من الحملة التي فاقت الحملات الصليبية كثيرا من حيث بشاعتها ووحشيتها. وحري بالذكر، وربما يكون هذا الأمر قد غاب عن إدراك المؤلفة، بأن صورة القائد صلاح الدين قد كانت أسطورة في نظر العرب ليست بسبب دوره في معركة حطين حسب، بل أنه ضرب أروع المعاني الإنسانية، التي ما كان لها أي ذكر في تاريخ أوروبا البربري، والمتمثل في تعامله الإنساني مع ألد أعدائه. وما موقفه مع ريتشارد قلب الأسد الا خير مثال على ذلك، حيث أرسل له فرسا وطبيبا لمعالجته عندما علم بمرضه والقتال جار على قدم وساق. ومن المحقق ان الخلاف يفرض نفسه مع المؤلفة التي ترى بأن الحروب الصليبية قد تركت نوعا من الشعور بالكراهية بين العرب والغرب، ما زالت نابضة بالحياة في عصرنا هذا. وفي الحقيقة فإن المشاعر التي تتحدث عنها المؤلفة، لو كانت حقيقية، لا تمت للحروب الصليبية بأية صلة، بل كانت مخاض الإستعمار الغربي وسياسة الإذلال والتجويع والسيطرة التي سعى الغرب إلى فرضها على العالم العربي. وهي الذاكرة التي ما زالت حية في نظر الكثيرين ممن عاصر ذلك الزمن القريب وذكرياته المؤلمة