اشترك في تأليف هذا الكتاب عدد من الكتاب والمثقفين العرب، وضم اسماء كل من د. سليمان العسكري، ود. خليفة شاطر، ود. عبد الله تركماني، ود. مبروك المناعي، ود. الحبيب الجنحاني، ود. يوسف بن رمضان، وقدم له د. عبد السلام المسدي. ويتناول موضوع الثقافة العربية والتحديات الراهنة التي تواجهها، وهو موضوع واسع، تتعدد مقارباته النظرية والتطبيقة، كما تتعدد طرق ومجالات تناوله ودراسته،

ذلك أن الثقافة، بمدلولها الأوسع، موجه للحياة اليومية من خلال صياغة حركة الوعي لدى الناس وتشكيل ذاكرتهم الثقافية المستمرة التي تختزن كل أفعالها وتجلياتها من الماضي إلى الحاضر ثم إلى المستقبل. وعملية إنتاج الثقافة هي عملية مستمرة تخترق جميع المراحل التاريخية، وتوصف على أنها نتاج عمل دائم، وتختزن الذاكرة الجماعية الموروثة من التراث والماضي، وتساهم في توجيه الأفراد والجماعات في الحاضر وفي صناعة المستقبل.

ويتساءل سليمان العسكري عن وضع الثقافة العربية، وهل أصابها العجز الإبداعي والنضوب الفكري فلم تعد تقدم جديداً يذكر؟ فكلما أشرقت فكرة نيرة في سمائها اكتشفنا أنها مأخوذة بنصها من مصدر أجنبي أو محورة عنه، حتى أن قلّة المفكرين العرب الذين يبدون كرهبان في عزلتهم الفكرية قد أصبحوا عاجزين عن إقامة حوار حقيقي مع الواقع الذي يعيشونه بعد أن فشلوا في إقامة الحوار مع النخب الحاكمة ؟

ويوسع الدائرة حين يتساءل عن سبب فشلنا حتى الآن في الاستفادة من ريح الديمقراطية ودعاوى المحافظة على حقوق الإنسان، تلك الريح التي تهب على كل مكان من أميركا اللاتينية وجنوب آسيا حتى إفريقيا جنوب الصحراء، وما الذي جعلها تتوقف خارج البلاد عالمنا العربي وهو المعروف بعواصفه، ودوامات الرمال التي تدور في سهوله ومع ذلك لم نشم شيئاً من عبق الديمقراطية، وإذا كانت المطالب العربية قد تناقصت من المطالبة بالتغيير إلى مجرد الإصلاح ومن الوصول إلى المطالبة فقط بـ «اللاديكتاتورية»، فإن هذا الحد الأدنى لم يتحقق حتى الآن.

إذاً، لا تبدو المفارقة المنهجية الأساسية في الثقافة، إذ ليس الفعل الثقافي مصدر خلاف بين الباحثين بل تلمس أسباب العجز هو المفضي إلى مقاربات ثقافية وسياسية وتاريخية ومعرفية متشابهة حيناً ومتضاربة في غالب الأحيان. كما أن تحليلات الباحثين في حقل الثقافة تنجم عن عملية الحفر المعرفي في الذاكرة الثقافية، وليس في طرح الأسئلة عن أسباب توقف الإبداع، بل في طرح أساس المشكلة القائمة في طبيعة النظم السياسية الحاكمة التي قتلت روح الإبداع والخلق.

وعليه سرعان ما تبدأ عملية الفرز بين من يشير إلى صلب المشكلة، وبين من يلجأ إلى الانتقاء، والتصنيف، والأدلجة، فتتولد عنها مجموعة من التصنيفات أو المقاربات التي تتخذ من التاريخ الثقافي منطلقاً للمغايرة، أو من العلاقات الشخصية مدخلاً لتصنيف الظاهرات الثقافية ودورها في بناء اللحمة أو التنافر بين الأفراد والجماعات، وكذلك دور المثقف.

ويؤكد عبد الله تركماني على أن المثقف العربي في هذا الزمن المتغير يستمد مكانته من مطابقته للقيم العقلانية والإنسانية دائما، من عمق قراءته للظواهر الجديدة، بما يحرره من الأوهام التي تجعله أسير ماض يستحيل أن يعود كما كان عليه، وتخلصه في الآن نفسه من الطوباويات التي تغرقه في أوهام مستقبل لا ينفك يبتعد. وتكمن أهمية وجود مثل هذا المثقف في ظل ما شهده المجتمعات المعاصرة من تحديات وتحولات في هذا الزمن المتغير،

فهناك الانهيارات السياسية والأيديولوجية التي أصابت العديد من الأفكار والنظم والمشاريع. وهناك الطفرات المعرفية التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان، والتي أسفرت عن انبثاق قراءات جديدة للحداثة وشعاراتها حول العقل والحرية والتقدم. وهناك الثروات العلمية والتقنية والمعلوماتية التي ندخل معها في طور حضاري جديد.

ولعل أحد أهم ملامح التحولات العالمية تكمن في محاولة التعرف على عناصر ومكونات ثقافة العولمة وأدواتها الوظيفية، وكذلك ما تنطوي عليه من قضايا: الثقافة الوطنية، والهوية الحضارية، والخصوصية القومية. فإزاء كل ذلك، يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكنه من فهم وتشخيص هذه التحولات العميقة بداية، ومن ثم الانخراط في تغيير الواقع الثقافي العربي في اتجاه التكيف الإيجابي مع معطيات وتحولات هذا الزمن المتغير.

غير أن منبع تجدد الإشكال الثقافي اليوم يرجع إلى تصادم حقيقتين بارزين، أولهما الالتزام بمقتضيات الكونية الناتجة عن مسار توحد البشرية واقتران مصائر أبنائها، من خلال الثورة الاتصالية والاندراج في الاقتصاد والمجتمع العالميين. وثانيهما الإقرار بحق الثقافات في الاختلاف والتمايز وتماثلها من حيث القيمة والمشروعية. والواقع أن مكمن الإشكال عائد إلى صعوبة صياغة تأليفية لهاتين الحقيقتين.

ولكن من المؤكد أن أيا من المجتمعات الإنسانية لم يعد رهين ثقافته الخاصة، ومن ثم لم يعد سلوك هذه المجتمعات، أو تفكيرها الجماعي، هما النتاج الطبيعي والضروري لثقافاتها الوطنية فقط. والواقع أن المقاربة الايديولوجية للثقافة تحاول تفسير الانتاج الذهني على ضوء علاقته بالواقع المادي. وهو ما ركزت عليه بعض الأدبيات النظرية في تحليل العلاقة الجدلية بين البنية التحتية المادية والبنية الفوقية النظرية.

في حين أن مقاربة الثقافة تعمل على تفتيت الكليات الثقافية الكبرى إلى مكوناتها الأولى التي نجمت عن الأنماط الثقافية السائدة والتي تتقارب أو تتباعد طبقاً لأشكال الممارسة اليومية، وهي ممارسات مبنية على الذاكرة الثقافية الجماعية الموروثة من جهة، وعلى الاستجابة العاطفية لتلبية الحاجات إلى الأمن الجماعي من طريق اكتساب خبرات ثقافية جديدة لمواجهة التبدلات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة بسبب المثاقفة المستمرة بين أفراد وجماعات من بيئات وأنماط ثقافية مختلفة أو متنوعة.

وهي تشدد على أشكال السلوك الثقافي التي يمارسها الأفراد، وتحليل الدوافع الكامنة وراءها من خلال تعزيز روابطهم الأسرية والتربوية والدينية واللغوية والقيمية وغيرها. وبذلك تتعزز مجموعة النظم الاجتماعية السائدة التي تلزم الأفراد والجماعات بأشكال من السلوك الجماعي. فهي تعبر عن المغايرة أو التمايز بين الأنا والآخر من طريق التمسك بالقيم الثقافية الموروثة لكل جماعة مع انفتاح نسبي على القيم الثقافية لدى الجماعات الأخرى.

ويعتبر خليفة شاطر على أن السؤال عن مستقبل الثقافة العربية وتحديات العولمة هو سؤال محرج و إشكالي نظرا لتشعيب «المفاهيم» التي يجب توضيحها حتى يتسنى لنا طرح الإشكالية الناتجة عن تفاعلها، كمفهوم الثقافة العربية ومفهوم العولمة.

ذلك أن العولمة هي أمر واقع لا مجال لرفضه، بل علينا أن نعتبره مجال مزاحمة وصراع لنفرض وجودنا، فمن غاب اليوم عن الساحة الدولية الافتراضية التي تمثلها شبكة الانترنت همش نفسه فانغلق أمامه الأفق. بينما يعتبر عبد السلام المسدي أن زلزال البدائل الأيديولوجية قد خلق في مشهد الثقافة الإنسانية حالة من الانفصام فيها ظاهر و باطن: الأول يشيد بحوار الثقافات، والثاني ينفث في منهجة صراع الحضارات،

و لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تخطاه إلى اتخاذ فكرة الصراع لتفسير التاريخ. و لشرح هذا المتن الفكري الجديد تم اقتناص الثقافة العربية مع محملها الديني المصاحب فريسة تختبر عليها المقولة الجديدة، وحيث إن هذا الاختبار يجري على حكر الوقائع السياسية فإن رواده لا يسعهم أن يراجعوه، أو ينقضوه ذاتياً، فضلاً عن مناقضته أو التخلي عنه.

ويؤكد الحبيب الجنحاني أن الثقافة العربية تعيش أزمة حادة في المرحلة الراهنة، ولا غرابة في ذلك فهي جزء من أزمة أشمل وأعمق يعيشها العالم العربي اليوم، ومن هنا فإن التساؤل عن مستقبل الثقافة العربية في عصر العولمة لابد أن يسبقه تساؤل عن مستقبل الأمة العربية ذاتها.

كما تجد الثقافة العربية نفسها اليوم بين المطرقة والسندان، أي بين قيود الداخل، وتحديات الخارج. تتمثل قيود الداخل في الكبت السياسي في جلّ الحالات العربية من جهة، وفي موجة الردة والرداءة التي استفحل أمرها منذ ثمانينات القرن الماضي من جهة أخرى، وقد تبدى ذلك في تراجع المشروع التنويري العربي أمام استبداد الداخل وهيمنة الخارج.

ومهما يكن الأمر، فإننا نحتاج إلى وقفة تأمل بهدف تقييم وضعنا الثقافي الراهن كي ندرك مواطن ضعفنا ونجند طاقاتنا لنتدارك الأمر، حتى تبلغ ثقافتنا المستوى المنشود الذي يضمن إشعاعها العلمي، ولكن الوضع الراهن قد يشجع المزايدة والركون إلى الحلول اليائسة و الانغلاق الماضوي

والانحراف نحو سلوك إرهابي لدى بعضهم. كما تكتسي مسألة الأمن الثقافي العربي سمتي الإلحاح والخطورة إذا ما نظرنا اليوم إلى خريطة العالم السياسية المتحركة التي شهدت بروز ونشأة كيانات سياسية جديدة نتيجة ملابسات وسياسات واستراتيجيات مختلفة، متجانسة ومتقاربة أحياناً ومتضاربة ومتصادمة أحياناً أخرى.

* الكتاب: الثقافة العربية والتحديات الراهنة

* الناشر: المركز الإعلامي الكويتي في تونس 2006

* الصفحات: 141 صفحة من القطع الصغير

عمر كوش