لقد كان البريطانيون مقبولين من شعوب منطقة الخليج العربي، بل كانوا موضع ترحاب، فلماذا انسحبوا؟ هذا هو السؤال الذي طرحه الباحث الإماراتي د. سيف محمد بن عبود البدواوي على نفسه عندما كان طالباً بالمدرسة القاسمية بالشارقة، والذي يقدم في هذا الكتاب محاولة للإجابة عنه.كان الخليج العربي منطقة مصالح بريطانية محاذية لأطراف امبراطوريتها في الهند، كما كان يشكل جسراً يربط أوروبا بالشرق الأقصى.
وظلت السيطرة على مضيق هرمز والمضايق الأخرى بأعلى الخليج موضع اهتمام كبير بالنسبة إلى البرتغاليين والهولنديين والفرنسيين والبريطانيين، غير أن الوجود البريطاني في الخليج استمر لأكثر من قرن ونصف القرن، وهي أطول مدة وجود شعب آخر من الشعوب الأوروبية بالمنطقة.
في عام 1820 وقع شيوخ إمارات الساحل اتفاقية عدم اعتداء على السفن البريطانية بالمنطقة. وفي عام 1853 وقعت اتفاقية منع الهجمات البحرية على سفن تجارة واستخراج اللؤلؤ بالخليج. وفي عام 1892 وقعت بريطانيا مع الحكام اتفاقية تحديد الاختصاصات.
وفي عام 1899 وقعت بريطانيا اتفاقية تعاون مع حاكم الكويت الشيخ مبارك الصباح. وعموماً كان الهدف من تلك الاتفاقيات هو منع القوى الدولية والإقليمية الأخرى مثل فرنسا وألمانيا وتركيا وروسيا من الحصول على موضع قدم لها في تلك المنطقة، كذلك الرغبة البريطانية في السيطرة على الشؤون الخارجية وشؤون الدفاع بإمارات الخليج العربي.
في عام 1947 استقلت الهند عن التاج البريطاني، ولكن الوضع البريطاني الخاص في الخليج استمر بعد ذلك، لأسباب اقتصادية، أكثر من عشرين عاما. واكتسب الخليج، لأول مرة في تاريخه الحديث، مكانة هامة، لا بسبب موقعه الجغرافي بل بسبب النفط الذي بدأ بالتدفق على أوروبا،
كما أضحت الاستثمارات في النفط الخليجي ذات أهمية قصوى بالنسبة لبريطانيا مما دفعها لإنشاء بعض المؤسسات مثل: كشافة عمان المتصالحة عام 1951، ومجلس الإمارات المتصالحة في العام 1952 ، ومكتب تطوير الإمارات المتصالحة عام 1965.
وللمحافظة على حقوق التنقيب عن النفط قامت بريطانيا بترسيم الحدود في المنطقة. كما عينت ممثلين سياسيين بريطانيين بدلاً من الممثلين العرب. كما وضعت قواعدها العسكرية بالبحرين والشارقة وجزيرة مصيرة العمانية في حالة تأهب قصوى في أعقاب مطالبة عبد الكريم قاسم بالكويت عام 1961.
وعن التطور السياسي في شبه الجزيرة العربية والخليج، يرى الكاتب أن بريطانيا لم تعد تستطيع عزل الخليج عما كان يجري حوله بعد اندلاع الحرب الأهلية في اليمن (أكتوبر 1962- يونيو 1970) بين الجمهوريين بزعامة عبد الله السلال والموالين للإمامة، وظهور التمرد في عدن، واشتعال حرب الإمامة في عمان (1957- 1959)، وتمرد ظفار(1965- 1976)، كما إن الدعوة للقومية العربية كانت قد شقت طريقها إلى المنطقة.
فقد استقبل الشيخ صقر بن سلطان القاسمي حاكم الشارقة عام 1964 وفدا من الجامعة العربية برئاسة عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة ، مرحبا بالبرنامج المعد لتطوير الشارقة وباقي الإمارات. ثم يناقش المؤلف التنمية الاقتصادية في الإمارات تحت الإشراف البريطاني، والذي تم على مرحلتين، الأولى بداية من أوائل الخمسينيات وحتى بداية عام 1965، أما المرحلة الثانية (1965 ـ1971) فقد نجحت في تنفيذ عدة مشروعات تنموية.
وأنشئ مكتب التطوير عام 1965 للإشراف على تطوير الإمارات، خاصة الشمالية. وانطلقت مشروعات تطوير الطرق والمرافق والكهرباء وموارد المياه والإسكان الشعبي. أما إمارتا أبوظبي ودبي فلم تكونا بحاجة إلى مساعدات مالية بسبب ثروتهما النفطية، بل كان يلزمهما التشجيع والتوجيه.
ومع تولي الشيخ زايد (رحمه الله) مقاليد الحكم في أبوظبي عام 1966 تطورت في عهده الإمارة بشكل متسارع، كذلك الإمارات الشمالية. وقد كان قائداً تواقاً للتطوير والتحديث بشكل أدهش البريطانيين، وقد اعترضته مشكلة نقص الخبرات، فعمل على توظيف خبراء عرب وبريطانيين للمساعدة في عمليات التطوير وتأسيس البنى التحتية في الإمارات المتصالحة، كي تستعد،
وبشكل أفضل، اقتصادياً واجتماعياً لانسحاب القوات البريطانية عام 1971 إلى جانب التطوير الاقتصادي عملت بريطانيا على إعداد الإمارات في مجالات أخرى متعددة تمهيداً لاستقلالها النهائي، ففتحت الطريق أمامها للاتصالات الدولية (شركات البترول الأميركية- الجامعة العربية ـ منظمات الأمم المتحدة)، خاصة مع العالم العربي، وشجعت الحكام على تأسيس قوات الشرطة، وقوات عسكرية خاصة، وتولت المحاكم بعض الصلاحيات القانونية (محاكمة الأجانب).
غير أن تلك التطورات قد صاحبها بعض المشكلات التي لم تحلها بريطانيا، كالهجرة غير المشروعة، ووجود قوات دفاع متعددة هددت الاستقرار الداخلي، فبقيت ماثلة أمام الدولة الاتحادية الجديدة. كما شجعت بريطانيا ، قبل انسحابها، شركات البترول البريطانية والشركات العاملة في مجالات أخرى على تبني سياسات خاصة تضمن لها الاستمرار في العمل وعدم الاعتماد على نفوذ الحكومة البريطانية وحمايتها.
وقد رحبت شركات البترول والشركات العريقة كالبنك البريطاني للشرق الأوسط، بسياسة الانسحاب لأنها تشجع الحكام على تخصيص مبالغ كبيرة لتأسيس الدولة الجديدة على أساس حديث، تستفيد منها الشركات التي كانت في وضع يمكنها من الفوز بعقود جديدة مجزية.ومن ناحية أخرى دخلت بعض الشركات العالمية في شراكة مع الشركات المحلية وأسست فروعا لها لتظل تعمل في السوق الإماراتي.
ثم يتناول الكتاب الترتيبات الأمنية والسياسية والتي أقرتها حكومة حزب العمال البريطانية بعد مجيئها إلى السلطة في عام 1964 وإعلانها الانسحاب من منطقة الخليج في الثاني عشر من ديسمبر عام 1968 على أن يبدأ تنفيذه عام 1971. حيث ركزت تلك الحكومة على تنفيذ عدة خطوات، مثل:- تكوين بنية فيدرالية للإمارات، وحل بعض المشاكل الحدودية بالمنطقة، وتشجيع التفاهم الإقليمي.
ففي 18 فبراير عام 1968 وقع حاكما أبوظبي ودبي المغفور لهما بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، اتفاقية لتوحيد الإمارتين، ثم عرضا على حكام البحرين وقطر والشارقة والفجيرة وعجمان وأم القيوين ورأس الخيمة المشاركة في اتحاد يضم الإمارات التسع (الاتحاد التساعي).
وفي 25 فبراير 1968 تم توقيع اتفاقية دبي، وعلى أساسها تمت المناقشات التي استمرت حتى العام 1971. غير أن الاختلافات في وجهات النظر وتباين المواقف بين البحرين وقطر، وبعض الرواسب التاريخية العالقة (النزاع الحدودي الذي تم حله مؤخراً عام 2003)، علاوة على تشجيع بريطانيا لكل منهما على الاستقلال، فقد حدث التوافق السباعي على تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة في الثاني والثالث من ديسمبر عام 1971.
وفي سياق الترتيبات الأمنية الخليجية النهائية التي أقرتها بريطانيا قبل الانسحاب، سياسة العمودين المتوازيين، أي تشجيع الدورين السعودي والإيراني لتحقيق التوازن الاستراتيجي في منطقة الخليج العربي، وملء الفراغ الذي سينجم حتماً عن الانسحاب البريطاني، بما يضمن هدوءاً سياسياً واقتصادياً يحقق التدفق النفطي إلى الأسواق العالمية وبأدنى الأسعار الممكنة.
وعن المشاكل الحدودية فقد تراوح التدخل البريطاني العسكري والسياسي على حسب وضع المصالح البريطانية الاستراتيجية بالخليج. حيث كان الرد البريطاني على التقارب الأميركي ـ السعودي حملة بريطانية عسكرية على القوات السعودية في الخمسينيات، وهو ما دفع الإدارة السعودية إلى تقوية علاقاتها بالولايات المتحدة الأميركية،
ثم كان الضغط البريطاني على الدولة الوليدة لتصليح مسار العلاقات السعودية ـ البريطانية بما يحقق مصالحها النفطية في السعودية. وكان التوافق السعودي ـ الإيراني في أفق الخارجية البريطانية عند وضع اللمسات النهائية على الترتيبات الأمنية في الخليج لضمان الهدوء العسكري والسياسي بالمنطقة.
محمد جمعة
*الكتاب:بريطانيا والخليج العربي سنوات الانسحاب
*الناشر: الفلاح للنشر والتوزيع - الكويت 2007
*الصفحات: 296 صفحة من القطع الكبير