يستعرض الكاتب العراقي أحمد عبد الستار الجواري في كتابه الحب العذري نشأة الحب العذري كصورة مهذبة من صور الحب تسمو على لذة الحس وتتعالى عن شهوة الجسد، وتطوره ليصبح ظاهرة أدبية اجتماعية عرفها الأدب العربي بعد الإسلام. الدكتور أحمد عبد الستار الجواري كان أستاذاً وعميداً جامعياً وعضواً في المجامع العربية وتسلم مناصب وزارية عدة مرات، فكان وزيراً للتربية والتعليم ووزيراً لشؤون رئاسة الجمهورية ووزيراً للأوقاف.
من مؤلفاته الشعر في بغداد حتى نهاية القرن الثالث الهجري، نحو التيسير، نحو القرآن، ونحو المعاني وتوفي سنة 1988. يرى الباحث أن للحب العذري قيماً ثابتة خالدة لا ينال منها تغير الأحوال وتقلب الأزمان وأن من قيمه الثمينة الجديرة بالخلود هذا التسامي بالغرائز البشرية حتى تبلغ درجة تليق بالإنسان ذي العقل المدبر والشعور النبيل، فيسلك في حياته النفسية والعقلية سلوكاً يتوازن فيه بين حاجات الجسم وضرورات بقاء النوع وبين ما يتميز به من إدراك وفكر وذوق يسمو به عن الاستجابة إلى الغرائز.
وتطرق المؤلف إلى دراسة هذه الظاهرة الأدبية الاجتماعية، دراسة أدبية تقوم على أساس مما كشفه العلم الحديث في دراسته للعواطف والمظاهر النفسية، متتبعاً مبدأ هذه العاطفة في الشعر العربي ملماً بتاريخها وأسباب نشأتها، وانتقل إلى حلول الحب العذري في بيئة أهل العلم والفقه حيث لونته الثقافة الدينية والفلسفية بلون مثالي فلسفي بعد به عن أصله الغريزي بعداً ما..
واستعرض الجواري مفهوم الحب عبر عصور مختلفة بادئاً ببحث في الفلسفة القديمة في الحب، فكان أفلاطون أشهر من كتب فيه من فلاسفة اليونان وكان ينظر إلى الحب على أنه حب الذكور للذكور وهو ما تسميه السيكولوجية الحديثة Homosexual love أما الحب الجنسي فهو العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة فكانوا يعتبرونها حاجات جسمية لا تختلف عن الحاجات الأخرى مثل الطعام والشراب، ويفسر بعضهم ذلك بأن الخدمة العسكرية المستمرة التي كانت تفرض على الجنود البعيدين عن النساء صرفتهم إلى حب الذكور، وجاء سقراط ـ طليعة الفكر اليوناني ـ ولم يزد على هذا أن جعل هذه العلاقة الشاذة حباً عقلياً يقوم على تربية المحبوب وترقية تفكيره.
وينقلنا الكاتب إلى الحب في رأي المحدثين الذين يقولون إن الحب حالة نفسية تستمد معانيها من الغرائز والدوافع الحيوية في الإنسان وتخلق من تلك الغرائز والدوافع نظاماً مرتباً من الانفعالات، تتحد في عاطفة واحدة قوامها تعلق بالشيء المحبوب بسرور لوجدانه وانقباض لفقدانه، ولا تزال تتطور حتى تبلغ بالمحب مراتب يشعر فيها بدوام الشعور واللهف إلى المحبوب في حالتي حضوره وغيابه، متمنياً الاتحاد به فلا ينفصل عنه ليصبح الاثنان واحداً والروحان روحاً.
ويرى الباحث أن هناك وقوعاً في الخلط بين الشهوة الجنسية وبين الحب، فالحب عند كثير من الناس لا يزيد عن توجيه الدافع الجنسي إلى شخص معين، وهو إذاً لا يبدو أن يكون مظهراً فجاً من مظاهر الغريزة الجنسية ينتهيبإشباعها ولا يمتد إلى أكثر من ذلك.
و من علماء النفس من يرى أن الحب عاطفة ومنهم من يرى أنه انفعال مرتب ذفََّّيَُ، والفرق بين هذين أن الأولى مجموعة مرتبة من الانفعالات ٍُُّيََُّ تدخل فيها عناصر عقلية وتمتاز بالثبات والاستقرار، ويرى الثاني عقدة أو تركيبا انفعاليا ذا قوة دائمة فيه حماس وفيه شدة وفيه تركيز الانتباه إلى شيء بعينه، وهو إذاً مجموعة من الانفعالات مصدرها دوافع غريزية إذا تحللت من تركيبها ظهرت في شكل رغبات شعورية وميول واضحة تثار في وجهات متضاربة.
ومن هنا يعتبر الجواري هذا الاختلاف غير ضروري إذ يبدو أن هاتين المرحلتين في الحب تسلم إحداهما إلى الأخرى وهذا فيما يظهر أدنى إلى الصواب، فالحب في أول ظهوره انفعال معقد مركب من دوافع غريزية أظهرها وأغربها الدافع الجنسي الذي ينبعث عن الغريزة الحيوانية التي ركبها الله في الحيوان لحفظ النوع، وكلما تقدم به الزمن انضافت إليه ـ إلى الانفعال المركب ـ عناصر من الحياة النفسية بعضها عقلي إرادي تقويه وتثبته في النفس.
وعن الإحساس بالحب ذهب المؤلف إلى أن الفرد في أول مراحل الحب يحس به ولا يستطيع تعليله أو تفسيره، فهو لا يشعر بأكثر من انفعال شديد يملك عليه جوارحه ويسيطر على أجزاء نفسه، ثم إذا طال عليه العهد استقر وامتزج بانفعالات شعورية وعناصر عقلية يستطيع المحب أن يعلل الحب وقتها.
ومن خلال أبحاث علماء النفس كان هناك اتجاهان أحدهما يجعل الحب تطوراً محضاً للغريزة الجنسية، أو انحرافاً جنسياً وهو رأي سيغموند فرويد، والاتجاه الآخر يرى أن الحب عاطفة وانفعال مركب تدخل في تكوينه دوافع غريزية عديدة ويضاف إليها عناصر من الإدراك والتعقل وليس الدافع الجنسي إلا دافع من دوافع متعددة.
كما يعتبر أصحاب هذه النظرة أن الغريزة الجنسية نقطة البدء في مرحلة الحب ولكنها تجتمع إليها بعد التطور الجنسي الكامل انفعالات متحدة مستمدة من العلاقة بالوالدين، فيكون حب المرأة ممزوجاً بالحنان والصبر، وحب الرجل مشوباً بالمحافظة والحماية ويضاف إلى ذلك أن الغريزة لا تنضج من قبل أن تتطور في الفرد قابلية الإدراك والقدرة على ضبط النفس.
وانتقل الباحث إلى رأي الفلسفة الإسلامية في ظاهرة الحب التي أخذ فيها أخوان الصفا ما أسموه (شدة الشوق إلى الاتحاد) فجعلوها الصفة الأساسية للحب، وسعوا فيها ما استطاعوا حتى طووا تحتها القوى الحيوية وغيرها.
بالإضافة إلى أراء ابن سينا التي أضافها إلى الحب الإنساني وهي تتفق مع ما يقرره علم النفس الحديث في تركيب عاطفة الحب ووجود العنصر العقلي فيها وعمله على تلطيف الشهوة حيث عقد فصلاً في سريان العشق لكل واحد من الهويات، وفصلاً آخر في وجود العشق في الجواهر البسيطة غير الحية وآخر لوجوده في الموجودات ذات القوى الحيوانية.. وجعل العنصر الأساسي في العشق هو النزوع إلى الكمال المنبعث عن الخيرية.
وتطرق الباحث إلى أصناف الحب عند ستندال وهو فرنسي من القرن التاسع عشر وصنف الحب إلى أربعة أصناف : الحب العاطفي وهو يمتاز بالقوة والعنف وشدة التعلق ويقترن بالشوق الشديد الجارف، الحب الاستلطافي وهو ألفة وصداقة قوامها خفة الظل والقرب من النفس، الحب الحسي وهو الاشتهاء الجنسي وهو لا يستحق أن يضاف إلى الحب إنما هو ضرب من الإيثار الحسي لشخص دون غيره، الحب العابث أو الكمالي وهو ضرب من الترف وهو ولع الرجل بامرأة جميلة كما يولع بالفرس الجميلة على اعتبارها شيئاً لابد منه للشاب المترف.
وسلط الجواري الضوء على نشأة الحب العذري عند العرب وتطوره فهو ألفة تقوم بين فتى وفتاة في زمن مبكر من عهد الطفولة وتنمو كلما تقدم بهما السن ليدخل في الألفة عنصر جديد هو إحساسهما بحاجة كل منهما إلى أليفه فيولد الحب وباجتماع الحاجة النفسية تزيد أواصره قوة.
وعن أول معالمه يرى المؤلف أنه حب ليس له غاية يسعى إليها، إنما هو ضرب من ضروب الصداقة البريئة والاستلطاف البعيد عن الغرض في مبدأ أمره، ومن هنا كان اشتهار الحب العذري بالعفة وعدم احتفاله باللذة أو تعلقه بالجسد وامتياز المحب العذري بأنه مثالي لا غاية له بالمحبوب ولا غرض يسعى إليه.
ويؤكد الجواري ظهور صورة الحب العذري في أواسط القرن الأول الهجري وهو وليد التطور الاجتماعي الذي أحدثه الإسلام في الحياة العربية، ونشأ هذا الحب في البادية وترعرع فيها وعرفت به قبيلة معينة هي قبيلة عذرة، كانت تقيم في بادية الحجاز، كما وجد هذا الحب في قبائل أخرى فيها عشاق من هذا الطراز منهم المجنون بن قيس الملوح العامري وكثير بن عبد الرحمن الخزاعي صاحب عزة (كثيّر عزة) وقيس صاحب لبنة وغيرهم كثيرون.
والحب العذري ظاهرة اجتماعية عبر عنها الشعر العربي تعبيراً أدبياً فهو فكرة شعرية تصدر عن عاطفة عميقة قوية تحتوي الألم، الوجد واللذة بالوصل، والقلق للبعد، والسرور بالقرب. وأشار الكاتب إلى تطور الحب العذري في الأدب العربي بانتقاله من عاطفة يتغنى بها فريق من الشعراء حتى أصبح فكرة يتداولها بعض الكتاب فيحددونها ويحللونها ويشرحونها، ومن بينهم محمد بن داوود الظاهري وكتابه الزهرة، و ابن حزم وكتابه طوق الحمامة.
ويعتبر الباحث أن الحب قوة لها من الشمول حظ ولكن أظهر مظاهرها وأوضح صورها هذا الحب الإنساني الذي تقوم أواصره بين فردين فتحلو لهما في ظله الحياة، ولولاه لكانت أشبه بعيش البهائم، حاجات جسمية ورغبات مادية ليس بعدها شيء وليس فوقها شيء. وفي دراسته للحب العذري كمعنى وظاهرة نشأت وتطورت كظاهرة اجتماعية وأدبية كان للإسلام الفضل الأول في خلقها وفي إخراجها للوجود، كما أنه ظاهرة نفسية قوامها إعلاء الدافع الجنسي والسمو بعاطفة الحب لتصبح عاطفة قوية ثابتة تكاد تختفي فيها غاية الدافع الغريزي.
ناهد رضوان
*الكتاب: الحب العذري ـ نشأته وتطوره
*الناشر:المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت 2006
*الصفحات:246 صفحة من القطع الكبير