يعمل الان بنتوليلا، مؤلف هذا الكتاب، أستاذاً للألسنيات في جامعة السوربون، وهو مستشار علمي في المرصد الوطني الفرنسي للقراءة وفي الوكالة الوطنية الفرنسية لمكافحة الأمية، قدّم العديد من الكتب، ومنها: «جزيرة الكلمات» و«كل شيء حول المدرسة»، الخ.
«الكلمة ضد البربرية» هو كتاب ـ رسالة موجهة إلى الجميع وفي جميع لغات العالم من أجل لعب «الدور المطلوب» في نقل «لغة مشتركة» تكون سلاحاً ضد البربرية. يقول المؤلف في مقدمة كتابه: «علينا أن نعلّم أطفالنا بأن اللغة ليست موجودة من أجل التحدث فقط إلى أولئك الذين نحبهم وإنما أيضاً وخاصة إلى أولئك الذين لا نحبهم. وبمقدار ما يمكن أن ننقل لهم مكارم ومطالب فضائل الكلمة يمكننا الأمل أن يتفاهموا مع الآخرين عن طريق الكلمات وليس عبر العراك بالأيدي». وما يؤكده المؤلف هو أن الطفل يبدأ ب«الفهم» قبل «الكلام»، وهو يسرد حكاية تقول انه عندما كانت ابنته البكر في عمر ثلاثة أشهر ونصف الشهر فقط «قررت التوقف عن تناول الطعام». بدأ ذلك ذات صباح واعتقد الأب ـ المؤلف يومها أن المسألة تتعلق بمجرد نزوة عابرة ستنقضي بسرعة. ولكن الأمر لم يكن كذلك إذ أصرّت تلك الطفلة على إبعاد قارورة الرضاع كلما قرّبوها من فمها.
ألحّ الأب، ولكن لا فائدة فالطفلة أصرّت بعناد على «موقفها». «كانت قد بدأت معركتها»، كما نقرأ. دخل الأب ـ المؤلفة ساحة معركة لم يكن يعرف عنها الشيء الكثير محاولا بكل جديّة وباذلا جميع الجهود الممكنة من أجل أن يثني «إرادة طفلته الوليدة» وإرغامها على الخضوع أمام إرادته «العمياء» و«العنيدة».
ما يؤكده المؤلف هو أن مزيجا من «القلق والغضب» منعه من القدرة على اللجوء إلى الكلمات. بل وإن فكرة التوجه بالحديث إلى طفلة ابنة ثلاثة أشهر ونصف الشهر فقط، كانت «تتحداه» بنظرتها العنيدة هي الأخرى، بدت له فكرة عبثية ولا فائدة منها. لكن رفضها الصامت بدا في غاية الإصرار وإنه «موقف نهائي» ولا رجوع عنه.استمرت تلك الحالة أسبوعاً ثم أسبوعين، وباختصار أصبح الوضع خطيراً. فالهزال بدأ يظهر بوضوح على جسد الطفلة الرضيعة، ومع ذلك رفضت أن «تبتلع» أي شيء.
ذات يوم كان الأب في مكتبه بالمنزل وهو يتأمل الموقف مما أوصله بالقناعة بضرورة نقلها إلى المستشفى. فجأة سمع صوتا يأتي من غرفة الطفلة. كانت الأم بصدد «الحديث» إلى الطفلة ب«عذوبة وتصميم». وفي كل مرة كانت تتوقف فيها الأم عن الكلام كانت الطفلة تبدأ من ناحيتها ب«التغريد». وبعدها مباشرة أنهت «إضرابها عن الطعام».
على خلفية مدلول هذه الحكاية وقدرة «الكلمة» على أن تكون «مفهومة» و«فاعلة» حتى بالنسبة لأولئك الذين لم يمارسوا الكلام بعد، يحاول المؤلف أن يطور «نظريته» المتعلقة ب«فعل الكلام» ابتداء من مرحلة النطق ووصولا إلى الأدب ومروراً بدور المدرسة. وما يؤكده عامة هو أن هذا «الفعل» لم يعد يلعب دوره في التعلّم وتحديد أنماط سلوكيات البشر تشجيع تواصلهم.
ويؤكد المؤلف أنه منذ الطفولة الأولى يبدأ «الكلام» يلعب دوره «السلمي»، فعندما تقول الأم لطفلها: «لم أفهمك»، إنما هي تقول له في الوقت نفسه «إنني أحبك» وأيضا: «أنت شخص آخر». وبهذا المعنى يكون دور اللغة هو «مد الجسور» بين أفراد الأسرة لكل منهم شخصيته المتفرّدة.
يقول المؤلّف: «عندما نعلّم الطفل أن اللغة هي من أجل الحديث مع ذلك الذي لا يشبهنا، فإنه سوف يجد البعيد عنه محاورا متميزا يمكن التفاهم معه بواسطة اللغة». ولا يتردد مؤلف هذا الكتاب في وضع المدرسة عامة، والمدرسة في فرنسا في سياق دراسة حالتها العيانية، في «قفص الاتهام».
ويرى أنها قد فشلت خلال العقود الأخيرة في مواجهة تحديين رئيسيين. التحدي الأول يكمن في السيطرة على اللغة»؛ والتحدي الثاني هو «ديمقراطية المدرسة» بمعنى النجاح في تحقيق «الاختلاط الاجتماعي» بين مختلف شرائح المجتمع.
تتم الإشارة في هذا السياق إلى أن تلامذة المدرسة الابتدائية في فرنسا يعانون بنسبة مهمة منهم من «عدم السيطرة» على اللغة قراءة وكتابة. بل ويؤكد أن أربعمئة ألف تلميذ ينهون السنة الدراسية السادسة (الأخيرة) في فرنسا حاليا وهم يعانون من مصاعب حقيقية على صعيد القراءة.
مثل هذا الواقع الذي يتسم، حسب توصيفات المؤلف، ب«غياب الأمن اللغوي» له نتائجه الاجتماعية اللاحقة الخطيرة. ذلك أن الفشل المدرسي يترتب عليه في الأغلبية الساحقة من الحالات فشلا في المسيرة المهنية لأصحابه. بل و«تهميشهم» بسبب نقص المؤهلات. بهذا المعنى يحمّل المدرسة مسؤولية تتجاوز مسألة التعليم، بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنها لا تعترف بذلك وتستمر في «الكذب على نفسها».
لكن كيف يمكن للكلمة أن تلعب دوراً ضد البربرية؟ لسبب بسيط وجوهري يحدده مؤلف هذا الكتاب بالقول انه ينبغي فهم العنف على أنه «نتيجة لا بد منها لواقع عجز الفرد عن صياغة تفكيره في كلمات يقولها». وانطلاقا من هذه الفكرة، وتأسيسا عليها، يؤكد على أهمية «المحطات الأساسية» التي يلعب فيها تعليم اللغة واستخدامها «وظيفة» ذات طبيعة سلمية.
يقول: «إن اللغة ليست فقط من أجل الحديث مع أولئك الذين أحبهم، وكي أقول لهم أشياء لن يحبوها بالتأكيد، ولكنها ربما سوف تسمح لنا بالعيش معا بشكل أفضل». هكذا إذن يرى المؤلف أن اللغة قد تسمح للأطفال ب«عدم العراك بالأيدي» وللكبار ب«تحسين إمكانيات العيش المشترك».
وإذا كان المؤلف يتتبع في تحليلاته «مسيرة» تعلّم اللغة منذ الطفولة إلى المراهقة فسن الشباب، فإنه يركز أيضاً في تحليلاته على أهمية ما يسميه ب«الثقافة الشفهية» وبالدور الذي تلعبه في تحسين شروط «الثقافة المكتوبة».
وذلك بمعنى أنه بمقدار ما تكون القدرة أكبر في التعبير في استخدام قاموس «أوسع» في الأحاديث الشفهية، تكون عملية تعلم «الكلمات المكتوبة» أكثر سهولة. من هنا أيضاً تأتي أهمية الوسط الاجتماعي وما يتم من تناوله من حديث فيه بالنجاح المدرسي لاحقا بالنسبة للأطفال.
وبصورة أكثر عمومية يناقش المؤلف بإسهاب المفهوم الذي تعبّر عنه جملة «الثروة اللغوية». وهو يرى أنه إذا كان يتم تقديم اللغة غالباً على أنها «أداة للتعبير»، فإنه لا ينبغي بالمقابل تأطيرها في قوالب نهائية جامدة ومجددة «مرّة واحدة وإلى الأبد».
ذلك على أساس أن فائدة اللغة لا تكمن فقط في تقديمها لكلمات محددة، وربما لمرادفات كثيرة، للدلالة على هذا الشيء أو ذاك، أو تلك الفكرة أو تلك، وإنما المهم والأكثر فائدة هو في قدرتها على «تمفصل» الكلمات كي تعبّر عن «غنى» مكنونات أولئك الذين يتحدثون بها.
ويرى المؤلف أن «الدور السلمي» للغة يتعاظم بمقدار ما تكون «غنية» بالمعنى الذي قصده والذي تعبّر عنه بشكل جيد الجملة التالية: «إن اللغة، أي لغة، لا تتحدد أهميتها بكمية الكلمات التي تمتلكها وإنما في قدرتها على فرض أفكار الذين يتحدثونها على العالم».
على قاعدة ما سبق يتم تفسير أحداث العنف التي شهدتها ضواحي المدن الفرنسية الكبرى، وخاصة العاصمة باريس، في نهاية عام 2005 وشارك فيها الآلاف من الشباب الذين يسكنون هذه الضواحي وينحدرون بأغلبيتهم الساحقة من أبناء المهاجرين ذوي الأصول الإفريقية السوداء أو من بلدان المغرب العربي التي استعمرتها فرنسا سابقا.
ما يؤكده المؤلف هو أن أحداث العنف عنه تعبّر في أحد مظاهرها الأساسية عن «بؤس لغوي» وغياب لغة «التفاهم»، ذلك أن من لا يستطيع التعبير عن أفكاره وعما يجيش في صدره بواسطة الكلمات، قد يعبر عنه بالأيدي، وبحرق آلاف السيارات كما شهدت أحداث العنف المعنية. بالطبع إذا كان المؤلف قد أكّد على أهمية العامل اللغوي فإنه لم يقلل من الدور المركزي للعوامل الاقتصادية والاجتماعية في انفجار موجة العنف تلك.
في المحصلة يحدد المؤلف اللغة الصحيحة والغنية بتلك التي تسمح للإنسان أن يعبّر عن رأيه بدقة تسمح له بفهم ما يقوله الآخر، وبإقناع «أولئك الذين لا نحبهم» ولسبب ما «لا يحبوننا». وهذا ما يشرحه المؤلف على مدى الفصول الخمسة التي يتألف منها الكتاب وتحمل العناوين التالية: «كيف يتعلم الطفل الكلام» و«عندما تتولّى المدرسة المهمّة» و«عندما تشح الكلمات» و«فرض الرأي على العالم» وأخيرا «الكلمة والمقدّس». ف«لنعلّم أطفالنا كيف يعيشون معا»، وهذا هو العنوان الفرعي للكتاب.
*الكتاب:الكلمة ضد البربرية
*الناشر: اوديل جاكوب - باريس 2007
*الصفحات:201 صفحة من القطع المتوسط
Le verbe contre la barbarie
Odile Jacob - Paris 2007
P.201