القيروان «رابعة الثلاث» بعد مكة والمدينة المنورة والقدس الشريف هكذا كان يطلق الفقهاء عليها،هي أقدم وأول مدينة إسلامية اختطها القائد العربي «عقبة بن نافع» لتكون قاعدة لنشر الإسلام في المغرب العربي، وتقع عاصمة الأغالبة في تونس على بُعد 156 كم من العاصمة تونس، قام بإنشائها «عقبة بن نافع» عام 50ه، لتلعب دوراً أساسياً في تغيير مجرى تاريخ الحوض الغربي من البحر الأبيض المتوسط وفي تحويل إفريقية (تونس) والمغرب من أرض مسيحية لهجتها اللاتينية إلى أرض لغتها العربية ودينها الإسلام.
تعتبر القيروان من أقدم وأهم المدن الإسلامية، بل هي المدينة الإسلامية الأولى في منطقة المغرب ويعتبر إنشاؤها بداية تاريخ الحضارة العربية الإسلامية في المغرب العربي، فلقد كانت مدينة القيروان تلعب دورين هامين في آن واحد، هما: الجهاد والدعوة، فبينما كانت الجيوش تخرج منها للغزو والفتح، كان الفقهاء يخرجون منها لينتشروا بين البلاد يعلِّمون العربية وينشرون الإسلام.
وقد أنشئت القيروان بعيدا عن العمران فكانت بذلك آمنة من هجوم الأعداء وبعد بناء المساجد والمساكن شدّ الناس المطايا إليها من كل بلد وعظم قدرها، وكان لها سور له أربعة عشر بابا. وكان سوقها متصلا بالمسجد من جهة القبلة، وممتدا إلى باب باسم «باب الربيع». حول المدينة أقيمت أسوار عالية تطورت على مدى التاريخ لتكون قلعة حصينة تصدّ عنها حجارتها المرصوصة هجمات الغزاة إلا أنها لم تسلم وأسوارها من أطماع الألمان في الحرب العالمية الثانية، إذ هدموا قسما منها لاستعمال حجر الطابوق لبناء مدرج للطائرات.
وقد استطاعت القيروان أن تفرز طوال أربعة قرون متتالية مدرسة متعدّدة الخصائص أبقت على ذكرها خالداً وحافظت على مجدها التليد، وكانت المدينة آنذاك سوقاً للمعرفة يغترف من مناهلها الواردون على أحواضها والمتعطّشون لمعارفها، فطبقت شهرتها الآفاق وعمّ ذكرها كامل أرجاء المغرب الإسلامي. وانتصب بها منذ أواخر القرن الثالث هجري (التاسع ميلادي) بيت للحكمة محاك لمثيل ببغداد في التبحّر في مجالات العلوم الطبية والفلكية والهندسية والترجمة وركّزت مقومات النهضة الفكرية والعلمية بالبلاد. وقد ظلت عاصمة للبلاد وأحد أكثر مراكز الثقافة العربية الإسلامية تألقاً بالمغرب الإسلامي طيلة خمسة قرون من السابع إلى الثاني عشر للميلاد.
القيروان.. حضارة عريقة
وقد اشتهرت القيروان بالعمارة الإسلامية العريقة التي بنيت بها الجوامع عبر التاريخ واهمها الجامع الكبير الذي يعود تاريخه إلى السنة 836 م، والذي يتميز بمحراب وارضية ذات بريق معدني، بالإضافة إلى منبره ومقصوراته اللذان يعتبران من روائع تحف الفن الإسلامي.
كما تشتهر القيروان بـ «جامع عقبة بن نافع» وهو من أبرز ما جاءت به العمارة القيروانية في الحضارة الإسلامية بالمغرب العربي، وقد أسس سنة 50 ه،وهو يشتمل على 17 بلاطة وثمانية أساكيب، ويستمد تخطيطه من الجامع الأموي مع الاقتداء بمثال جامع الرسول بالمدينة،وبالإضافة إلى معماره وتركيبه الهندسي يتميز بالمحافظة على أغلب أثاثه الأصلي الذي يرجع إلى فتراته الأولى، ومنه المنبر الخشبي 284ه وهو أقدم المنابر الإسلامية التي سلمت من تقلُّب الأزمات، وهو مصنوع من خشب الساج، ويشتمل على ما يربو عن 106 لوحات تحمل زخارف بنائية وهندسية بديعة، تعبر عن تمازج التأثيرات البيزنطية وتوحيدهها في روح إسلامية.
ويعد جامع الأبواب الثلاثة من إحدى أهم المعالم القديمة بالقيروان وقد شيده في سنة 866 ميلادي من قبل الفقيه محمد بن خيرون الأندلسي الذي قدم من قرطبة،ولهذا المسجد واجهة رائعة زينت بالخط العربي وبزخارف بارزة.
التراث المائي
وقد اشتهرت القيروان أيضا بالمؤسسات المائية في الحضارة الإسلامية، وتعد بركة «فسقية الأغالبة» من أشهرها كونها تعتمد على ثلاثة عناصر أساسية وهي حوض للترسيب يبلغ قطره 34م وحمولته 3000م3 يستند على دعائم داخلية وأخرى خارجية،وكذا على حوض كبير يتصل بالحوض الأول عن طريق فتحة تسمى السرح ويمتاز بأبعاده المترامية حيث يبلغ قطره 127،7م وعمقه 4،8م ويحتوي على 64 دعامة داخلية و118 دعامة خارجية، بالإضافة إلى صهريج مسقوف بأقباء طوليّة تخزن فيه المياه التي ستتخذ للشراب، وتبلغ حمولته حوالي 900م3 وبذلك تفوق سعة مجموع البرك 57000م3.
وربما اتّخذ بعض أمراء الأغالبة هذه المنشآت المائية للنزهة والترفيه إذ تذكر المصادر أن زيادة الله الثالث قد صنع سنة 295ه/908م مركبا أنزله للبركة للتنزه فيه. كما أجرى المعز لدين الله الفاطمي سنة 348ه/959م قناة تصب في البركة بعد أن تملأ مواجل عاصمته صبرة المنصورية.
وقد أقيمت هذه البركة من قبل الأمير أبو إبراهيم أحمد بن الأغلب سنة 248ه/862م بعد عامين من العمل المتواصل وتأنق في مظهرها وإبراز تفاصيلها الهندسية بما يتناسب مع مظهر عاصمته القيروان، ويمكننا اعتبار هذه البركة الكبيرة بأبعادها الشاسعة كإسهام تذكاري لمجد المدينة الصامدة، وعطاء الجانب المختل من حياتها والمعبر عن معركتها القديمة ضد القحط، وتعتبر هذه العمارة التي كانت وليدة الحاجة نموذجا فريدا من نوعه يمتاز بصلابته وتناسق أحجامه.
ومن أهم منشآتها المائية التراثية للمدينة أيضا نجد «بئر بروطة» الذي يعتبر من أهم وأقدم الآبار بالقيروان ولم يذكر اسم بئر روطة إلا في القرن الخامس الهجري،وهي من محدثات الأمير هرثمة بن الأعين وقد أنشأها حوالي سنة (180ه/796 م) في مدة إقامته بالقيروان حفر بها بئر واسعة الفم لها سفرة رخام، غزيرة الماء بالقرب وتعرف هذه البئر الآن باسم بئر «بروطة» وقد أعيد بنائها أيام الحكم المرادي إذ تدل هذه النقوش المثبتة حاليا أن أشغال البناء تمت بهذه البئر سنة 1101 م.
القيروان عاصمة الإسلام الأولى في شمال إفريقيا تحوي بين طياتها آثارا تدل على عظمة الحضارة العربية الإسلامية وكبار رموزها حيث يرقد فيها الكثير من الأعلام والشعراء من إفريقيا والأندلس والجزيرة العربية، في عصور الأغالبة والفاطميين والصنهاجيين منهم «الشيخ عبد الرحمان خليف» إمام مسجد عقبة بن نافع، و» ابن رشيق القيرواني»، و«ابن شرف»، و«الإمام سحنون»، و«الحصري» و» أسد بن الفرات» و«ابن الجزار»، و» المعز بن باديس الصنهاجي» و«عبد الله الأغلب».
الزربية القيروانية
وبعيدا عن رائحة التاريخ والحضارة، التي تتأكد من خلال المدينة العتيقة، والأسوار التي تم ترميمها بإتقان، ومن خلال العدد الكبير من المساجد والأضرحة وغيرها من المعالم تتميز القيروان إلى جانب ذلك بأنها مدينة فنون وصناعة تقليدية، التي يهتم بها سكان المدينة السكان ويحافظون على طابعها المميز بما فيه من طرافة وأصالة،وأول غرائب هذه المدينة «صناعة الزربية» وهي صناعة منزلية نسائية قديمةحيث أن الزربية نوع من السجاد المصنوع من الصوف الرفيع تمتاز بألوانها الطبيعية المتميزة،و هناك أنواع أخرى منها:العلوشة والمرقوم وبعضها تصدر إلى الخارج،بالإضافة إلى صناعة الأواني النحاسية وصناعة الأثاث الخشبي صورة لفراش تقليدي(يلقب بحانوت الحجام) مصنوع من الخشب المنحوت والمدهون، وتتميز كذلك بصناعة الحلي والفضة.
«القيروان» هذه المدينة العريقة التي تحمل في كل شبر من أرضها عطر مجد شامخ وإرث عريق يؤكده تاريخها الحافل ومعالمها الأثرية الباقية التي تمثل مراحل هامة من تاريخنا العربي الإسلامي، جالبة إليها زوارا من مختلف أنحاء العالم،تستعد اليوم لتكون عاصمة للثقافة الإسلامية لسنة 2009 م.
ناهد رضوان