تتسم فرنسا بأنها بلد تسود فيه الكاثوليكية، وأن الكاثوليك يشكّلون فيه، منذ قرون، غالبية المسيحيين الفرنسيين . لكن هذا لا يمنع واقع أن البروتستانت لهم وجودهم في فرنسا، إذ كانوا يمثّلون في القرن السادس عشر، حوالي 10 بالمئة من مجموع السكان.
إلا ان هذه النسبة تضاءلت كثيرا في الفترة المعروفة ب"حروب الدين"، التي شهدتها أوروبا. وهكذا أصبح البروتستانت لا يمثّلون سوى 2 بالمئة ضمن فرنسا، اعتبارا من القرن الثامن عشر. أمّا اليوم فهم يعدّون أكثر قليلا من مجموع الفرنسيين. ويناقش الأستاذ الجامعي الفرنسي، أحد مؤرّخي البروتستانتية المعروفين في فرنسا، باتريك كابانيل، في كتابه الأخير :"تاريخ البروتستانت في فرنسا من القرن السادس عشر حتى القرن الحادي والعشرين"، أهمية ودور هذه الفئة المجتمعية. يمثّل تاريخ البروتستانتية في فرنسا، كما يقدمه المؤلف، نوعا من الفشل .
ذلك أن بلد جان كالفن، الفرنسي، أحد أهم رموز البروتستانتية (الذي يوصف بأنه كان الأكبر والأكثر راديكالية بين دعاة الإصلاح الديني البروتستانتي)، على خطى مارتن لوثر، لم يصبح (البلد ) بروتستانتيا. ولكنه بالمقابل، تاريخ نجاح، ذلك إذا جرى قياس الأمر على أساس الدور الكبير، الاقتصادي والفكري، الذي تلعبه النخب البروتستانتية في فرنسا منذ القرن السادس عشر، إلى الوقت الحالي. ويشير المؤلف، أيضا، إلى الدور القوي لهذه النخب الغنيّة، في العديد من المدن الفرنسية الكبرى، مثل:
لاروشيل، مونتوبان، نيم. وفي المناطق الريفية، مثل منطقتي سيفين وبواتو.
يشرح باتريك كابانيل، في صفحات متعددة ضمن الكتاب، واقع أن البروتستانت عرفوا مسارا تاريخيا صعبا في فرنسا. إذ إنهم تعرّضوا لأشكال متنوعة من العنف، خلال فترة طويلة من الزمن. وكانت أعداد كبيرة من البروتستانت قد آثرت الهجرة للمحافظة على بقائها وحياتها. ومن هنا يتحدث عن مّا يسميه "الشتات البروتستانتي" في أوروبا وفي أميركا، خاصّة في الولايات المتحدة وكندا، مبينا أن أولئك الذين فضّلوا البقاء في البلاد التي عاشوا فيها لأجيال عديدة، جعلوا من الماضي المأساوي الذي عرفوه، أحد المكونات الأساسية لهوية يمتزج فيها الألم والاعتزاز.
ويبين المؤلف أن البروتستانت الفرنسيين، استعادوا الكثير من الإحساس بالهدوء والراحة، منذ قيام الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 . كما أن ذلك المنعطف الكبير، شكّل نوعا من المسار الجديد في ما يتعلّق بـاندماج البروتستانت في النسيج الوطني الفرنسي. ويختار المؤلف الانتقال الى تبيان حقائق كثيرة، تبرز إسهام البروتستانت في تقدم البلاد، داخل إطار البوتقة الاجتماعية الجديدة، إذ انخرطوا بنشاط مميز، في تأسيس المجتمع والدولة الحديثين.
وخاصة من خلال ترسيخ المبادئ الجمهورية التي تؤكّد على التساوي في الحقوق والواجبات، بين جميع المواطنين، بعيدا عن انتماءاتهم العقائدية والإثنية، أو لون بشرتهم. وتتمّ الإشارة في هذا السياق، إلى أن نفوذ البروتستانت الفرنسيين كبير ولا يتناسب مع وزنهم العددي.
ويتبدى هذا في مجالات عديدة، ففي الصناعة: شركة بيجو لصناعة السيارات، مجموعة هيرمز في مجال العطور والسلع الراقية". وفي السياسة : ليونيل جوسبان وميشيل روكار ( شغلا منصب رئيس الوزراء). وفي الثقافة : اندريه جيد، الفيلسوف بول ريكور، السينمائي جان لوك غودار .
ويوضح المؤلف أنه خلال خمسة قرون من تاريخ البروتستانت في فرنسا، لم يكونوا أكثر نشاطا ودينامية وازدهارا من ما هم عليه منذ أربعة عقود من الزمن. وهذا ما يدلّ عليه واقع أنهم أصبحوا يمثلون 3 بالمئة من مجموع السكان، بينما لم يكونوا يمثلون في القرون الثلاثة الأخيرة، سوى 2 بالمئة. ولا يغفل المؤلف أن يبين حقيقة أنه، وفي كل الحالات، لا تزال البروتستانتية تمثل أقليّة صغيرة من المجتمع الفرنسي.
وهي تحاول بشتى السبل، إسماع صوتها. ومن الخصوصيات التي يؤكّد عليها المؤلف بالنسبة للبروتستانتية الفرنسية، أن الدول الأوروبية الأخرى عرفت منذ القرن الثامن عشر، عملية فرز واضحة، إذ كانت دولا كاثوليكية أو بروتستانتية. كما عرفت كلّها، تحالفا وثيقا بين الكنيسة والسلطة السياسية.
وأمّا بالنسبة لفرنسا، فإن البروتستانتية ظلّت موجودة في المشهد الاجتماعي والسياسي، من دون أن تنجح في الحلول مكان الكاثوليكية. وهكذا كان على فرنسا أن تتعلّم كيف تعيش مع حالة الانقسام العقائدي.. وكان البروتستانت ممثَلين كثيرا في النخب الاقتصادية والسياسية في فرنسا.. وكان البروتستانت قد ناضلوا بقوّة كي لا تصبح الدولة الفرنسية ذات هوية كاثوليكية.
المؤلف في سطور
يعمل باتريك كابانيل أستاذا للتاريخ المعاصر في جامعة تولوز الفرنسية. يولي اهتمامه الرئيسي لدراسة الجمهورية الفرنسية الثالثة التي سادت في فرنسا من عام 1870 حتى عام 1940 ولتاريخ البروتستانت فيها .من مؤلفاته :"تاريخ العادلين في فرنسا" .
الكتاب: تاريخ البروتستانت فـي فرنسا
تأليف : باتريك كابانيل
الناشر: فايار باريس 2012
الصفحات: 1502 صفحة
القطع: الصغير
Histoire des protestants en France
Patrick Cabanel
Fayard- Paris- 2012
p.