يبحث كتاب «روح الدين، من ضيق العلمانية إلى سعة الإنتمائية» لمؤلفه طه عبدالرحمن، في عمق وظيفتي الدين والسياسة، حسب تحليلات المؤلف، أي "التشهيد" و"التغييب"، ذلك من أجل القول ان الدين والسياسة لا يشكلان مجالين مستقلين من مجالات الحياة الإنسانية، بل هما طريقان متقابلان للفاعلية الإنسانية، يتوصل بهما إلى تحقيق أغراض كل واحد من مجالات الحياة، تحقيقاً يأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين العالمين، المرئي والغيبي؛ أو بالأحـــرى التعبدي والتسيــــدي.

وذلك انطلاقـــاً من قناعة طه عبدالرحمن، التي تنهض على اعتبار ان الإنسان يحيا في عالمين اثنين، أحدهما عالـــم مرئــــي يوجد فيه الإنسان بجسمه وروحـــه؛ والثاني غيبـــي يوجــــد فيه بروحه؛ ولا تبرح أعمـــال الإنسان وأحواله جميعــــاً تتشكــــل بهذا الوجود المزدوج، ولـــو أن الأفـــراد يتفاوتــــون في قوة تحققهــــم به، وفي مدى ترجيحهم لأحد العالمــــين على الآخر، دون أن تكون لهم أبداً القـــدرة على الانفكــــاك عن هــــذا الازدواج الوجــــودي.

ويبين المؤلف أنه يدخل في الاعتبار أيضاً - أن الدين يمثل أفضل طريقة، يدبّر بها الفاعل الديني تنزيل العالم الغيبي، إلى رتبة العالم المرئي، آخذاً بأسباب التشهيد، في ما تمثل السياسة أفضل طريقة، يدبر بها الفاعل السياسي تصعيد العالم المرئي إلى رتبة العالم الغيبي، سالكاً سبيل التغييب.

ويجترح طه عبدالرحمن، مسلمة يدعوها "تعدية الوجود الإنساني"، تقضي بأن الإنسان، مؤمناً كان أو غير مؤمن، متعديّ الوجود بطبعه، لذلك يوجد في العالم المرئي وفي العالم الغيبي في الوقت نفسه. ويستنتج منها أن الإنسان محكوم بخيارين وجوديين لا ثالث لهما، فإما أن يقوم بتنزيل العالم الغيبي في العالم المرئي، ممارساً التشهيد، وإما أن يقوم بتصعيد العالم المرئي إلى العالم الغيبي، ممارساً التغييب. إضافة إلى أن التدين هو نتاج "الفطرة" التي تحدد طبيعة الروح.

وعلى هذا الأساس النظري، حول طبيعة الصلة القائمة بين العالم المرئي والعالم الغيبي، ينتقد عبدالرحمن كل من "الدعوى العلمانية" التي تقول، بشكل عام، بالتفريق بين العالمين المذكورين؛ والدعوى الأخرى، التي تقول، على وجه الإجمال، بالجمع بينهما؛ ويصطلح على تسميتها بـ"الدعوى الديانية".

 وعليه، يجري الاعتراض على الدعوى العلمانية، التي تشترط الفصل بين العمل الديني والعمل السياسي في نهوض الناس بوضع قوانينهم بأنفسهـــم تدخل على الوجود الإنساني شتى ألوان التضييق، كونها تنبني افتراضات باطلة، منها أن إرادة التدبير لا تتجلى إلا في القدرة على وضع القوانين، وأن إرادة الخالق تتعارض مع إرادة الإنسان.

كما تنبني على اختلالات في فهم الصلة القائمة بين الله والإنسان، الأمر الذي أفضى إلى قصـــر وجـــود الإنسان على عـــوالم وهميـــة غير حقيقية، من خلال قطـــع الصلة بين العالمين، المرئي والغيبي، وقلب مقاصدهما.

إضافة إلى أن الدعوى العلمانية تفترض عدم تدخل العمل الديني في الشأن العام، مقابل عدم تدخل العمل السياسي في الشأن الخاص، وبما يفضي إلى إضعاف وجود الإنسان بالعالم المرئي، بقطع أسباب وجوده في العالم الغيبي، جاعلة وجوده ضيقاً حرجاً.

بالمقابل، فإن هناك الدعوى الديانية، التي تقول بالوصل بين الدين والسياسة، ويختلف أصحابها بكيفية وطبيعة الوصل، إذ يرى بعضهم دخول الدين في السياسة، وبعضهم الآخر دخول السياسة في الدين، وهناك القائلون بالتماثل بين الدين والسياسة، وكذلك هناك من يقول بتحكيم الدين، ومن يقول بتفقيه السياسة. وقد أخذ معظم الحكام في البلدان العربية والإسلامية، بمقولة دخول الدين في السياسة، وجعلوا الدين تابعاً لسياساتهم.

ويأخذ عبدالرحمن على الديانيين، بمجملهم، عدم اشتراطهم العمل التزكوي في إقامة أحكام الدين، ويقترح "الدعوى الائتمانية"، التي لا تفصل بين "التعبد" و"التدبير"، أي بين الدين والسياسة، فصل الدعوى العلمانية، وفي الوقت عينه، ان لا تصل بينهمــــا بنمــط الدعـــوى الديانيــــة، وإنما تأخذ بالوحدة الأصلية، المتمثلة في الأمانـــة، التي تحملهــــا الإنسان باختيار منه؛ حيـــث لا فصـــل ولا وصـــل بين التعبد والتدبير في الأمانة، كما أنـــه لا فصل ولا وصل بينهما بالاختيار.

ويمتلك الكتاب، أهمية خاصة، في أيامنا هذه، كونه يدخل في إطار الجدل حول علاقة الدين بالسياسة، التي أثارت العديد من التســـاؤلات والإشكاليـــات، وخصوصـــاً في المرحلة الراهنة، والتي تشهد ثـــورات وتغيرات عاصفة في بعض البلدان العربية، أفضت إلى بروز قوى وأحزاب سياسية إسلامية في كل من تونس ومصر وليبيا والمغرب، ومن ثم وصولها إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع.

ويمتد الجدل ليطاول العلاقة ما بين المجال الديني والمجـــال السياسي، بما يقتضي إعادة تعريف دور الـــدين ووظيفته الاجتماعية والثقافية والسياسية، والاستناد إلى مقتضيات عملية التطور التاريخي لمكونات المنظومة العقائدية التي تمس جملة المفاهيم الأساسية المتعلقة بالعلاقة مع الآخر والتعددية والتسامح والحرية وسواها من المفاهيم.

 الكتاب: روح الدين من ضيق العلمانية إلى سعة الانتمائية

تـأليف: طه عبدالرحمن

الناشر: المركز الثقافي العربي، بيروت، 2012

الصفحات: 528 صفحة

القطع: الكبير