إنه عالم عميق، لكنه وهم لعالم آخر حقيقي، أو يمكن القول، إنها انعكاس الأشياء في المرآة، التي لو كانت موجودة أيام نرسيس لكان اعتاد وجهه قبل أن يراه في أحد الأيام على صفحة الماء، ومن ثم ليعجب بنفسه ولا يغادر مكانه.

و يرجح المؤرخون أن أقدم مرآة استخدمها الإنسان على الأرجح، هي برك الماء الساكن، داكنة اللون، أو الماء الموجود في أوان بدائية. وأما أقدم مرآة مصنعة، فكانت قطع الحجارة المصقولة.

وجدت بعض المرايا، من نوع السبجية، في الأناضول «تركيا الآن». وهي تعود إلى حوالي ستة آلاف سنة قبل الميلاد، وأما المرايا الحجرية المصقولة في أميركا الوسطى والجنوبية، فتعود إلى حوالي ألفي سنة قبل الميلاد، بينما صنعت النحاسية منها، والمصقولة في بلاد الرافدين، حوالي 4000 قبل الميلاد، وفي مصر، حوالي 3000 قبل الميلاد.

وأما الصينيون فقد استخدموا مرايا البرونز، وصنعوها حوالي العام 2000 قبل الميلاد، وكانت المرايا المصنوعة من المعادن الثمينة، مقتصرة على الأغنياء فقط، ويعتقد أن أول مرآة معدنية مغطاة بالزجاج قد صنعت في صيدا في القرن الميلادي الأول. وورد ذكر المرايا الزجاجية ذات الخلفية الذهبية في موسوعة بلينيوس الأكبر الطبيعية، والتي كتبت حوالي 77 سنة ميلادي، كما طور الرومان تقنية تشكيل المرايا الخام، بطريقة تغطية الزجاج المنفوخ بالرصاص المذاب.

 

انعكاس تاريخي

تستخدم المرآة عادة للتأنق الشخصي والتزيين والبناء، كما تستخدم في الأدوات العلمية، مثل: التليسكوب والليزر والكاميرا والأدوات الصناعية. وتصمم معظم المرايا للاستخدام مع الضوء المرئي، وهناك أنواع من المرايا مصممة لأنواع أخرى من الموجات، أو الأطوال الموجية، أو الموجات الكهرومغناطيسية، وخاصة في الأدوات غير البصرية.

وتصنع المرايا بتطبيق التغطية العاكسة لمادة أساس مناسبة، ويعتبر الزجاج من أكثر المواد شيوعا، بسبب شفافيته، وسهولة تصنيعه وصلابته وقابليته لامتلاك حواف ناعمة، وعادة ما تطبق التغطية العاكسة على الجانب الخلفي للزجاج، ما يجعل الطرف العاكس من الغطاء، محميا من التآكل، ومن الأضرار العرضية.

وفي العصور القديمة، صنعت المرايا من المعادن الصلبة «البرونز ومن ثم الفضة». وكانت غالية الثمن وقليلة الانتشار، وكذلك عرضة للتآكل، وبسبب الانعكاسية الواطئة لهذه المعادن، أعطت المرايا صورا أغمق من المرايا الحديثة، وهو ما جعلها غير مناسبة للاستخدام الداخلي، خصوصا مع إنارة الشموع والفوانيس.

وأما المرايا المصنوعة من الزجاج المسطح، فاخترعها حرفيو زجاج فينسيا، في القرن السادس عشر، في جزيرة مورانو، حيث قاموا بتغطية الجانب الخلفي من الزجاج بالزئبق، وأوجدوا بذلك انعكاسا شبه كامل وغير مشوش، واستخدمت المرايا (الفينيسية) إلى ما يزيد على 100 عام، فكانت محاطة بإطارات مزخرفة، واستخدمت بغرض التزيين في القصور الأوروبية، وعندما وصل سر استخدام الزئبق إلى لندن وباريس في القرن السابع عشر، خلال فترة التجسس الصناعي، نجحت المعامل الفرنسية في تصنيع المرايا، وهو ما جعلها متوفرة لعامة الناس، على الرغم من عدم معالجة مشكلة التسمم بالزئبق.

وأما في العصور الحديثة، فأنتجت المرايا عن طريق تشكيل المادة الأساس وصقلها وتنظيفها، ثم تغطيتها بمادة غير سامة، وهي غالبا ما تكون الفضة أو الألمنيوم الحاوي لطبقات من الأغطية.

 

أنواع

تعتبر المرايا أداة قادرة على عكس الضوء بطريقة تحافظ فيها على الكثير من صفاته الحقيقية، وتعمل بعض المرايا على ترشيح بعض الأطوال الموجبة، بينما تحافظ على أطوال موجية أخرى عند الانعكاس، وهذا يختلف عن الأدوات الأخرى العاكسة للضوء، والتي لا تحافظ على الكثير من خواص الموجة الأصلية، باستثناء اللون.

وأكثر المرايا شيوعا هي المسطحة. وربما تستخدم المرايا المحنية لتكوين صورة مكبرة أو مصغرة، أو تشتيت المعكوسة. من أنواع المرايا : الكروية المحدبة، التي توفر نطاقا أوسع من المرايا المسطحة، وتستخدم عادة في المركبات، وبخاصة الشاحنات الكبيرة، للتقليل من بقع العماء، وتوضع هذه المرايا في بعض الأحيان، عند تقاطع الطرقات وفي زوايا بعض المواقع، مثل أماكن ركن السيارات، لتمكين الناس من الرؤية حول الزوايا، ولتفادي الاصطدام بالسيارات، أو عربات التسوق.

وتستخدم كذلك كجزء من أنظمة الحماية، بحيث يصبح بمقدور كاميرا فيديو واحدة، عرض أكثر من زاوية في الوقت نفسه.

وأما مرايا الرؤية الخلفية فستخدم بشكل واسع في المركبات، مثل: السيارات والدرجات الهوائية. وذلك لتمكين السائقين من مشاهدة المركبات القادمة من خلفهم.

وتحتوي بعض خوذ الدراجات النارية على نظام عاكس بصري متعدد، وهو عبارة عن مجموعة من الأسطح العاكسة داخل الخوذة تعمل مع بعضها البعض كمرآة للرؤية الخلفية، وفي النظارات الشمسية للرؤية الخلفية، تكون النهاية اليسرى للزجاجة اليسرى والنهاية اليمنى للزجاجة اليمنى عبارة عن مرآة للرؤية الخلفية. وبالتقنيات المعقدة ذاتها، تصنع مرآة الأسنان التي يستخدمها أطباء الأسنان داخل الفم، فيكون السطح العاكس لهذه المرايا، إما مسطحا أو منحنيا، بينما يستخدم المهندسون هذه المرايا للرؤية في الأماكن الضيقة، وفي الزوايا الضيقة للمعدات.

وتحصر أنواع المرايا بمرآة الزجاج الألمنيومية، والتي تصنع من الزجاج المسطح المصنع باستخدام الطلاء الفراغي، حيث ينشر الألمنيوم فوق الزجاج، في حجرة مفرغة من الهواء، ثم تطلى بطبقتين أو أكثر من النوع المقاوم للماء، وتوفر هذه المرآة، انعكاسا حقيقيا ودقيقا.

وأما مرآة الزجاج واطئة الألمنيوم، فتصنع عن طريق تغطية السطح الخلفي من الزجاج بالفضة وبطبقتين من طلاء واق، ويكون هذا النوع من المرايا واضحا وناقلا للضوء، وأيضا ناعما يعكس الألوان الطبيعية بدقة. ويستخدم هذا النوع لتأطير العروض التقديمية، والمعارض عندما يكون تمثيل الألوان الدقيق للعمل الفني مطلوبا، أو عندما يكون اللون السائد في العرض التقديمي هو الأبيض.

وبالنسبة لمرآة الزجاج الآمنة فتصنع بإلصاق طبقة خاصة من شريحة على السطح الخلفي لمرآة الزجاج الفضية، ما يمنح الحماية من الإصابات عند تكسر الزجاج، ويستخدم هذا النوع في الأثاث والأبواب والجدران الزجاجية والرفوف التجارية والأماكن العامة.

وتستمر الدقة في صناعة المرايا لتبدو أكثر في مرآة الزجاج المطبوعة حريريا، وهي تصنع باستخدام حبر لا عضوي، يطبع نقشات خلال شاشة خاصة على الزجاج، وهناك ألوان ونقشات وأشكال مختلفة لهذا النوع من المرايا الذي يقاوم الأوساخ ويدوم لفترات طويلة، مقارنة بالزجاج المطبوع الاعتيادي، حيث يستمر عشرين سنة أو أكثر، ويستخدم لأغراض الديكور.

وأخيرا هناك مرآة الزجاج الفضية، وهي اعتيادية مطلية بالفضة في الجانب الخلفي منها، وهو ما يمكنها من عكس صورة الأشياء المقابلة لها، ويصنع هذا النوع بتغطية السطح الخلفي للزجاج بشريحة من الفضة، وأيضا الرصاص، ومع طبقتين أو أكثر من طلاء مقاوم للماء، وهو ما يمكن الزجاج من مقاومة الحمض والأوساخ، وتوفير صورة واضحة وحقيقية. وهي تستمر لفترات طويلة وتستخدم في الأثاث والحمامات وأغراض الديكور الأخرى.

وفي أغلب الأحيان تكون المرايا المستخدمة في الديكور، مصنوعة يدويا.

 

تأثيرات

للمرآة تأثيرات متباينة، تتنوع وتتمايز باختلاف انعكاس شعاع الضوء الساقط على المرآة، وكذا زاوية الانعكاس ومقدار مساواتها لزوايا السقوط، ومن هنا وُجدت المرآة: المسطحة والمقعرة والمحدبة.

وأما عن صورة شخص ما في المرآة فإنها ذات خصوصية في السمات، حيث، وعلى سبيل المثال ستنعكس اليد اليمنى لشخص ناظر في المرآة، لتبدو وكأنها اليسرى.

 

انعكاس أدبي

يقال إن المرآة صنعت كي تتيح للإنسان أن يتأمل شكله، ومن هنا ظهرت بعض الأحداث الأدبية، خاصة تلك القصص التي تتعلق بالأطفال، لتبرهن على أشياء معينة، مثل أن الذي ينظر إلى نفسه طويلا بالمرآة، يكون إنسانا مغرورا، كما يظهر هذا في قصة (بياض الثلج والأقزام السبعة)، في حين طرحت رواية دولاكروا التي عرفت الناس للمرة الأولى بخصائص هذا المخلوق العجيب، والتي كان من أهمها أن الإنسان لا يستطيع رؤية انعكاسه بالمرآة.

وبعيدا عن الموضوعات الأسطورية والتي تنتشر في العالم كله، نقرأ عنوان (المرايا) كعمل أدبي للروائي نجيب محفوظ، صدر له في العام 1971، وهو عبارة عن محاولة من الكاتب لرسم صورة فنية من منظوره الخاص لبعض الشخصيات التي قد تكون واقعية في حياته، وذلك بإلقاء الضوء على الجوانب الخفية والمعلومة لهذه الشخصيات، مع رابط دقيق بين سيرهم، والأحداث المتعاقبة عليهم. ومن ثم تأثير تلك الأحداث على مجريات حياتهم ومصائرهم، ويخلو العمل من انطباعات محفوظ الشخصية حوله، وكذا بخصوص الحقب السياسية التي عاصروها تحت بصره وسمعه.

كما عرف تاريخ السينما مجموعة أعمال في هذا الشأن، ومنها: الفيلم المصري :المراية، وهو من تمثيل نور الشريف ونجلاء فتحي وعادل إمام وعبدالمنعم مدبولي. ومأخوذ عن قصة من تأليف محي الدين عارف. وفي الأفلام أو المسلسلات والصور الثابتة يبدو الممثل وكأنه ينظر إلى نفسه في المرآة، ولكن في حقيقة الأمر، فإن الانعكاس هو الذي يكون مواجها للمرآة، أما الممثل فلا يرى انعكاسه، بل يرى الكاميرا، ومشغلها في المرآة.

 

المرآة في الفن

في العديد من اللوحات، صور الرسامون شخصا ما ينظر في المرآة، ولكن انعكاسه جسد بشكل من أشكال التجريد، وفي أغلب الأحيان، تستخدم زاوية رؤية بشكل لا يبدو فيه انعكاس الشخص، باديا للعيان، وظهرت لوحات كثيرة رسم فيها الفنانون المرآة، وربما يكون من أشهرها (فينوس والمرآة) للفنان دييجو فيلاسكيز.

وإلى جانب رسم المرايا في اللوحات استخدم الفنانون المرآة كجزء من العمل الفني، خاصة في المنحوتات، أو في تكملة الأعمال التركيبية، أو في اللوحات أحيانا، مثل ما فعل الفنان طارق مسلي، الذي استخدم تقنية المرايا ليطيل التواصل مع الجمهور، بمعنى أنه أراد تكسير الحدود والأطر التقليدية للوحة، وتقوم هذه التقنية على شق قماش اللوحة واستبدال القطعة المنزوعة بمرآة، لتبدو خلفية الشكل المرسوم، والذي غالبا ما يكون جسدا، صورة الزائر الواقف أمام اللوحة، ولينظر هو إليها كأنه أحد رسوماتها، وبالتالي تفتح عنده أبواب التساؤلات والتأملات.