"بالكتب" هكذا كانوا يسمونه في حيّنا.. جيوب دشداشته كبيرة إلى درجة الغرابة وكنا أنا وأصدقائي نضحك على تلك الجيوب الجانبية ونستغرب لماذا هي بهذا الحجم.. بلا شك كان شخصا تنويريا.. وكنت استغرب امتهانه بيع الكتب .. كثيرون في دبي يعرفون هذه الشخصية.. لله در هذا الرجل الذي امتهن بيع المعرفة للناس

ليس من باب الاستعراض، حديثي، هنا، عن مكتبتي التي لا يمكن معرفة ملامحها، فهي تلك الرفوف التي ترفع مجموعة كتب، تتقاطع وتتلاقى فقط، في نقطة كونها عبارة عن ورق محبر، ضمن مناح مختلفة من الادب والفكر والعلوم، فهي الشاهد الوحيد على تقلبات وعيي، وعلاقتي بالقراءة. لدرجة أنني لا استطيع اليوم تصنيف ذاك الذي كان يقرأ في جميع الاتجاهات، وكأن الأمر لهو طفل بألعاب جمعها من طرقات دلفت إليها صدفة أو عنوة، بقصد أو بغير قصد..هذه المكتبة، كلما نظرت إليها اليوم تثير فيّ الضحك، ذلك لأن شتاتها هو سرها الذي يجذبني إليها، حتى وأنا في اشد الأوقات ازدحاما.

ذات يوم، وأتوقع أنني كنت في الصف السادس الابتدائي، أخذني والدي إلى سوق الصبخة، وتماما بعد العبور على يمين قلعة نايف، في مكان مركز الشرطة القديم، والذي تحول اليوم إلي متحف لتاريخ الشرطة في دبي، بحوالي مائة متر. وكان هناك منعطف يتجه إلى اليسار، وبعد ان كنت تلج هذا المنعطف، ومن ثم تتجاوز ثلاثة محال تجارية.

كانت هناك مكتبة صغيرة، يجلس فيها، رجل إماراتي، هو في منتصف العمر..مؤكد أنني لا أتذكر اسمه، اليوم، أو أعلم إلى أين مضى، وطبعا لم يعد هناك وجود لتلك المكتبة، راهنا. وربما أنها تحولت متجرا لبيع الساعات الصينية، أوبعض الأجهزة الإلكترونية. لكن، وفي كل الاحوال، فإن المهم، انه كان هناك مكتبة.

وربما، ان صاحبها استمر في مشروع المكتبة ذلك، حتى فترة محددة من الزمن، وذلك قبل أن يبادر إلى إغلاقها، بعد أن ثبت لديه، بأن وجودها في سوق يكتظ يوميا بالسياح الأجانب، ووقوعها وسط عشرات المحال التي تبيع الملابس بكافة انواعها، أمر غير مناسب، وبذا يحتمل انه قرر تحويلها إلى متجر يشبه ما حوله من متاجر في السوق التي يقع ضمنها.. ولكن ما أذكره جيدا، انه ذات عصرية، دلفنا، أبي وأنا، إلى تلك المكتبة الصغيرة، وشاهدت الكتب مصفوفة على ارفف مرتبة، وكان الرجل جالسا إلى مكتبه فيها، وبعد أن ألقينا عليه السلام، بادره والدي، بجملة التي لا تزال ترن في أذني، حتى اليوم: "شوف لولدي كتب زينه". انتصب الرجل، ودعاني دون كلام، إلى الاقتراب من الأرفف..هناك ضاعت عيني بين العناوين، وهو يسألني: "

ماذا تحب أن تقرأ". تلعثمت، ولا أعرف لماذا خفت.. كنت مرتبكا جدا، حينها، لحرصي على أن لا أخطئ في اختياراتي أو حديثي عن هذه العوالم الجديدة التي أطل عليها وأشرع في الإبحار فيه، أمام أبي وذلك الرجل الذي أراه للمرة الأولى في حياتي..ولكن عيني كانت تمسح الأغلفة المعروضة..لا أعرف لماذا امتدت يدي إلى كتاب "السراب" للأديب نجيب محفوظ. وعندها، قال لي الرجل صاحب المكتبة: " هذا جيد، إنه هذا مصري..(يكتب زين).

وطبعا لم اكن اعرف من هو نجيب محفوظ، لا بل انه كان لا يعنيني في لحظتها. ولكن غلاف الكتاب، وذلك العنوان مرتج الخط، أعجبني..ثم خطا الرجل خطوتين، وقال لي: "وهنا ماذا تريد؟...". وأذكر أنه هناك ازداد ارتباكي..فقد اختلفت العناوين والأسماء.. كتاب عليه صورة امرأة أجنبية.

. وتحت الصورة هذا السطر: "اغاثا كريستي"، اومأت برأسي أنني أريد هذا الكتاب، لم يعلق الرجل، ولكنه ابتسم. ولا اعرف لماذا؟ ولكنني كنت أدرك ما أعنيه أنا في تلك اللحظة.. فهذا اسم اجنبي، وبالتأكيد أنها انجليزية.. فلماذا لا اقرأ ما تقول هذه الغريبة عني؟ اخترت مجموعة لا بأس بها من الكتب.

وتكفل أبي بان يدفع إلى الرجل، المقابل النقدي لها، ومن ثم مضينا إلى البيت..وطيلة الطريق، وأنا احمل الكيس في يدي، كانت تعتمل في صدري عشرات الأسئلة عما تحويه أوراق هذه الكتب، ومتى سأقرؤها؟ .. هل بعد أداء الواجبات المدرسية، أم عقب فترة اللعب أو قبله؟ أو ربما في يوم الجمعة، الذي هو يوم العطلة الوحيد الذي نستريح فيه من روتين المدرسة؟.. متى سيكون ذلك لم اكن اعرف؟

قرأت الكتب بعد عدة اشهر، لا أعرف ماذا قرأت، ولكن كان هناك شعور غريب اصبح ينتابني. يا إلهي، إن هذا الاختلاء ودس الرأس بين دفتي كتاب، يفتح نافذة على عالم سرمدي، أناس وحكايات.. صرت اعرف أسماء شخصيات، أصدقائي في الحارة لا يعرفونها. .إنها شخصيات تقبع هنا فقط، بين طيات هذه الكتب. أذهب إلى المدرسة، ثم إلى اللعب في الحارة، وبعدها أكون في البيت مع أخوتي.. ولكن هناك في المكان السري، عالم آخر..أولئك الذين تعرفت عليهم، وتلك الأماكن التي أصبحت أزورها دون أن أغادر مكاني..هذا هو السر، وكذا الاغراء الكبير الذي جذبني إلى عوالم القراءة.

طبعا، لم يكن سبب حب الاطلاع والمعرفة.. ولا الرغبة في الاستزادة، دافعي في هذا الاتجاه.. فالأمر كان فطريا وعفويا. اصبح الذهاب إلى صفحات كتبي هو رحلتي الممتعة.

اليوم، وحينما أقرأ عن الندوات التي تعقد في أنحاء العالم، حول أدب نجيب محفوظ، وقبل ذلك عندما توّج بجائزة نوبل للاداب عام "1988"، وحينما تعرض لمحاولة اغتيال عبر طعنة خنجر "1995".. كنت اشعر أن هذا يحدث لصديق عرفته، منذ زمن الصبا.. هذا صديقي، اعرفه، كان معي في تلك الزاوية، وهو الذي عرّفني على وجوه وأناس "زقاق المدق"، ومعه دخلت عدة بيوت وغرف، كما تمزق شعوري مع حشرجات الناس الذين عرّفني بهم. . حقا كان ذلك مثيرا. .وبالتأكيد في سنوات متفرقة، بعد ذلك، كنت ألتهم صفحات "بين القصرين" و"الحرافيش".

أما اغاثا كريستي، فلم اقرأ لها سوى ذاك الكتاب الذي نسيت حتى عنوانه، ليس لأن سحر كلماتها لم يأسرني، مثلما أسر الملايين من القراء عبر العالم، بل على العكس. لكن رواية "اللص والكلاب" لمحفوظ، بدت لي أكثر قوة في الدلالة والمتعة والإثارة، وكذا محفزة لشعور الانتفاض ضد القهر والظلم. انحزت إلى نوع مخالف من القراءة..

ففي رواية "الأم" لمكسيم غوركي، كنت ارتجف، وتغرق عيني بالدموع، بل كان الخوف يتسلل إلى زاويتي في تلك الغرفة الصغيرة التي كان يتكدس فيها أخوتي، وأنا معهم... اليوم انظر إلى مكتبتي التي انتفخت بكتب مختلفة، وأحن إلى مؤلفات قديمة، كان لي معها قصص وحكايات.

"بالكتب" هكذا كانوا يسمونه في حينا، جيوب دشداشته كبيرة إلى درجة الغرابة، وكنا، أصدقائي وأنا، نضحك على تلك الجيوب الجانبية في دشداشته، ونستغرب لماذا هي بهذا الحجم، ذات مرة سمع أبي تعليقي على تلك الجيوب، فقال: "إنه بياع كتب، وجيوب دشداشته كبيرة، لأنه يضع بداخلها كتبا".

. لم تكن إجابة والدي مقنعة، بالنسبة لي، إلى ان شاهدت "بالكتب" ذات يوم، وهو يعود إلى بيته، حاملا "بقشته" الكبيرة، المليئة بالكتب، فلمحت جيبه الجانبي الذي كان منتفخا. وقد حمل بداخله كتابا.. في تلك اللحظة صدقت والدي، وعرفت أنه لم يكن يهزأ بي بتلك الإجابة...

"بالكتب" كان يسكن حينا، في ديرة بدبي، ولديه "بسطة" في سوق الصبخة، وبينما الباعة يبيعون الملابس، والأحذية والخضر والفواكه، كان هو النافر بينهم، فهو الوحيد الذي كان يفترش قماش بقشته، ويصف الكتب عليها، لا اعرف إذا كان "بالكتب"، حيا يرزق إلى اليوم، أم انه رحل إلى ربه؟ لكن بلا شك، كان شخصا تنويريا، وكان مختلفا، وكنت استغرب امتهانه بيع الكتب، وكيف كان يجر عربته يوميا إلى ساحات سوق الصبخة، لكي يوفر للناس كتبا يقرؤونها.

كثيرون في دبي يعرفون هذه الشخصية، وكثيرون من هم اشتروا منه كتبا سكنت أرفف مكتباتهم، وسكن علمها عقولهم..لله در هذا الرجل، الذي امتهن بيع المعرفة للناس.