* «يا أيها الذين آمنوا» «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير» سورة الأنفال (15، 16)يرهب الله سبحانه وتعالى ـ الذي جعل الجهاد في سبيله ذروة سنام الإسلام ـ عباده المؤمنين من الهروب من ساحة القتال خنوعاً وجبناً وإيثاراً لسلامة النفس، دون الاهتمام بأن هذا يسبب هزيمة للمسلمين.
ومن ثَم كان الوعيد لمن فر من الوغى في غير جواز لذلك، أي لم يكن متحرفاً لقتال (بالاحتيال على العدو، كأن يدير ظهره موهماً له أنه هارب، ثم يكر عليه) أو متحيزاً إلى فئة (وذلك أن يعلم المجاهدون أن لا طاقة لهم بقتال العدو، فينحازون إلى طائفة من جيشهم لمناصرتهم، فالتحيز بهذه النية ليس حراماً ولا إثم فيه) بأنه «باء بغضب من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير».فما أشدها من عقوبة لمن أجرم وتولى يوم الزحف، عقوبة ثلاثية الجوانب: أولها أن مقترف هذا الجرم ينال غضب الله أي طرده من رحمته تعالى، والثانية: إدخاله جهنم، والثالثة: ذم مصيره والنهاية التي يؤول إليها.
وعدّ النبي صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من المهلكات السبع فجاء فيما رواه البخاري ومسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات» وذكر: «التولي يوم الزحف»، ولهذا اتفق العلماء على أن التولي يوم الزحف بالمعنى المتقدم ذكره كبيرة وجريمة بالمنظور الشرعي من أخطر الجرائم التي فيها جرأة على الله، قال أبوهريرة رضي الله عنه: «الجريء كل الجريء الذي إذا حضر العدو ولى فراراً، والجبان كل الجبان الذي إذا حضر العدو حمل فيهم حتى يكون منه ما يشاء الله. فقيل: يا أبا هريرة! كيف هذا؟ قال: إن الذي يفر اجترأ على الله عز وجل، وإن الجبان فَرَقَ (خاف) من الله عز وجل».
إن المؤمن الموصول بالله ينبغي أن يكون رابط الجأش ذا قلب راسخ بيقين أن ربه القاهر فوق عباده؛ لأن بداخل المؤمن حقاً اعتقاداً بأن الآجال بيد الله, وأنه إلى الله إن كان حياً, وإلى الله إن كُتبت له الشهادة. فهو بهذا أقوى من خصمه الذي يواجهه. إن ركون المسلمين إلى الدنيا نتج عنه الضعف واستصغارهم في أعين أعدائهم فساموهم سوء العذاب وقتلوا أبناءهم وذبحوا نساءهم واستباحوا حرماتهم واغتصبوا أراضيهم وهذا ما نراه بأعيننا في أماكن عديدة من العالم الإسلامي.
بل نرى تقاعساً وتخاذلاً عن نصرة المسلمين المضطهدين المسلوبة حقوقهم ولو بأقل القليل كما في فلسطين والعراق، وهذا ما أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «إذا ضنّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة (أن يشتري الرجل السلعة بدين إلى أجل ثم يبيعها لمن اشتراها منه بأقل من الثمن الذي اشترى به)، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم».
وينبغي أن ندرك أن الجهاد غير قاصر على جهاد السيف وساحات المعارك بل يمتد ليشمل ساحات الفكر والدفاع عن دين الله والذب عنه ومجابهة أصحاب الشبهات ومقارعتهم الحجة بالحجة وتصحيح اعوجاجهم الفكري وعدل جنوحهم العقلي، فكل صاحب قلم وفكر إسلامي صحيح لا ينبغي له أن يترك ساحات المعارك الفكرية متوليا عن الزحف والذب عن دين الله وسنة نبيه وصحابته الكرام، لأنه لا شك إن فعل ذلك باء بإثم عظيم وكان ذلك ذنبا وجرما بشعا عز فيه العذر.