لا يزال المخرج الصيني بيتر هو صان شان راغبا ببث القلق في صرح الصمت الرمادي لسطات بلاده التي تفتقر الى الاعلام الحر كما تفرض الرقابة على الاتصال والفنون واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وبعد ما يقارب ثماني سنوات على نشر اسمه في لائحة كبريات المطبوعات السينمائية المتخصصة (كما فاريتي في 1998) بوصفه أحد أهم عشر مخرجين تجدر مشاهدة أعمالهم، من المؤكد أن أفلام هذا المخرج باتت تخصص لها مساحات في المهرجانات الدولية ووسائل الاعلام الغربية أكثر من مخرجين كثر من أبناء جلدته.
هذه السنة، يعود صاحب "الرفاق: تقريبا قصة حب" بفيلم "الأعز" the dearest الذي يعرضه "مهرجان دبي السينمائي" ويتناول فيه احدى أكثر القصص اثارة للرعب في الصين الحديثة، وهي ظاهرة خطف الاطفال.
تشير تقارير غير رسمية الى أن حوالي 70 الف طفل يتم اختطافهم من عائلاتهم سنويا في هذا البلد الشائع، الذي قد لا نعرف عنه في عالمنا العربي أكثر من ثقله الاقتصادي أو مواقفه السياسية الداعمة لبعض الانظمة الديكتاتورية (مثل النظام السوري).
وخلال السنوات الخمسة الماضية نالت هذه القضية اهتماما كبيرا من وسائل الاعلام الصينية، وايضا الغربية التي لا يخفى على أحد الأجندة السياسية للبلاد التي تصدر منها والموجهة ضد نظام الحكم في الصين. وقد ركزت كل من "فورن بوليسي" الأميركية و"غارديان" البريطانية و"دير شبيغل" الألمانية في تقارير استطلعها كاتب هذه السطور على حالات الاهمال والصمت الخطيرة التي تواجه بها الشرطة حالات اختطاف الاطفال، كما لمّحت الى امكانية اشتراك عناصر من الشرطة نفسها، اضافة الى عناصر المنظمات الانسانية ورجال الاعمال في عمليات فساد تسهل خطف الاطفال لاستغلالهم في العمالة او الدعارة او بيعهم للداخل والخارج.
وفي الوقت الذي تظهر فيه السلطات الوطنية في الصين اهتمامها الكبير بهذه القضية عن طريق انشاء وحدات خاصة لمكافحة التجارة بالأطفال وتسليط الضوء في وسائل الاعلام على الجهود التي يبذلها عناصر الامن وعدد الاطفال الذين ينقذونهم، اضافة الى عمل مختبرات الحمض النووي المنتشرة في البلاد من اجل وصل الابناء الضائعين بعائلاتهم.. إلاّأن التقارير تنتقد هذه "البروباغندا" الرسمية في الوقت الذي يتحدث فيه الأهالي عن قيامهم من دون دعم يذكر بكافة الجهود والحملات وحدهم.
وتكتسب هذه المسألة تعقيدا آخرا في ظل سياسة الصين التي تجبر مواطنيها على انجاب طفل واحد، وتفرض ضرائب كثيرة على العائلة التي تقرر انجاب أكثر من طفل. وتؤمن هذه البيئة فرصا كبيرة لتجار الاطفال الذين يحصلون على طلبات من عائلات ترغب بشراء طفل أو طفلة من دون الافصاح عن ذلك رسميا كي يتسنى لها فرصة بالطفل "الشرعي" الآخر (يحدث هذا تحديدا في الارياف اذ ينظر الى الصبي بوصفه الثروة التي تساعد على ضمان مستقبل الاسرة التي تعمل في الزراعة)، أو فئة الزوجين غير القادرين على الانجاب، في ظل قوانين معقدة جدا للتبني، وبما أن الأطفال المعوقين هم غالبا الذين يتم ايداعهم في مراكز الايتام.
كل تلك القضايا موجودة في فيلم شان "الأعز" يصرح عن بعضها بشكل مباشر ويلمح الى أخرى، يكشف بجرأة وصدامية شاهدناها في أفلامه السابقة، ويوراي في بعض المرات كي لا يصطدم مع الرقابة الصارمة في بلاده.
يفتتح فيلمه بصور مقربة جدا لحياة ضيقة في زقاق من ملايين الازق في أحياء الصين، حيث اسلاك الكهرباء تتشابك في سماء الزقاق، كما تتشابك مصائر البشر في ذلك البلد الهادر بتركيبته السكانية. قطة الجيران تراقب، وثمة مراهقين غير مكترثين يمضغون العلكة ويثيرون المشاكل.. كل شيء يشي بأنه يوم آخر روتيني جدا في حياة تيان (قام بدوره بتمكن عال Huang Bo) الذي يدير محلا للألعاب الالكترونية ويعتني بطفله من طليقته. تتسارع الاحداث ويضيع الطفل عن عيون والده لكي يتم اختطافه وتبدأ رحلة الأب والأم في البحث عنه في طريق يودي بهما الى النصابين وعصابات المافيا والاطباء النفسيين وعناصر الشرطة غير المكترثين، الى أن يتخذ الفيلم مسارا مختلفا تماما مع عثورهما على الطفل بعد سنتين في مزرعة في قرية نائية وقد أضحى له ام جديدة وأخت.
مشهد استعادة الطفل (الطويل والكاريكاتوري في بعض المرات) على اثر مطاردة تحصل بين فريق الام والاب من جهة وفريق الام "الخاطفة" وأهالي قريتها من جهة أخرى، نكتشف أن الأم الجديدة لم تكن تعرف بأن الابن مخطوف، وان كل ما قاله لها زوجها المتوفي بأنه "أتى به من مكان آخر" (اي اشتراه على عادة اهالي الريف) كونها هي امرأة عاق لا تنجب. تتعقد الاحداث مع وجود طفلة أخرى في البيت القروي يناديها الصبي "اختي الصغيرة" من دون أن يكون لها نسب او اي اثبات بأنها مخطوفة وليست متبناة من قبل المتوفي.
يضعنا المخرج في مسار جديد للقصة يناقش في مسألة "الأم التي تلد والأم التي تتبنى" وهو موضوع سبق وتعرضت له السينما الآسيوية حديثا كما الفيلم الياباني الحائز على جوائز "كما الاب، كما الابن". وبدل أن نشعر بكره تجاه الأم القروية كونها "زوجة الخاطف"، يجعلنا المخرج، مستخدما الكثير من الدموع (يكاد يكون أكثر فيلم صيني ذرفت فيه دموع شاهدته في حياتي!) ونغمات البيانو التراجيدية، نشعر بتعاطف ومحبة تجاهها، وهي تكافح من اجل استرداد الطفلة على الاقل التي باتت الان في مركز للأيتام.
احد المشاهد المؤثرة في الفيلم، وان كانت "الجرعة الهوليودية"، ظاهرة فيها، هو مشهد تسلق القروية (قامت بدورها بشكل مؤثر جدا الممثلة Zahao wai) حتى نافذة غرفة دار الايام ولقاؤها بالطفلة من خلف الزجاج.
في مشهد آخر على النمط الأميركي، وهو مشهد المحكمة، يرفض القاضي، وبقمع غير مبرر، طلب القروية باسترداد الفتاة، كذلك يرفض بمنحها لعائلة تيان التي تريد أن تعيش "الأخت" الى جانب الصبي المتعلقة وشائجه بها. يتألم الجميع، ولا تبدو السعادة مبشرة لأي من الشخصيات. لا نهاية سعيدة للفيلم المستند على قصة حقيقية، بل نهاية طريفة، اذ يصور المخرج لقطات لقاء شخصيات القصة الحقيقية بشخصيات الفيلم في لقطات تسجيلية.
تخرج من الفيلم بعيون كثيرة مفتوحة على هذه القضية التي كنت بالكاد تعرف عنها، وبقكر منفتح على جدالات لا تنتهي عن الامومة ومفاهيمها والشر والخير وما الاخلاقي وما اللاخلاقي والسلطة والفساد وغيرها من الاسئلة.. لكن قبل ذلك كله على سينما اجتماعية- سياسية نابضة في الصين، لا شك أن شان هو من أحد روادها اليوم.