ذات يوم التقى الثائر الكوبي تشي غيفارا بسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة. كانت فاتن قد انتهت من تمثيل دورها في رائعة هنري بركات «الحرام»، حيث جسدت دور الفلاحة التي تقع في «فخ الخطيئة»، مغلوب على أمرها، فتذبح مرتين: مرة في رضوخها الذي لا حيلة لها فيه ومرة في عقاب المحيط لها، الأقسى من فعل الاغتصاب ذاته.
بوعي ناضج، حدثت فاتن المناضل الذي جسد وجه الثورات العالمية لدى ملايين الشباب في عقدي الستينيات والسبعينيات، عن دورها في هذا الفيلم، بفخر، ورقة كان يجسدها صوتها حين تتحدث، فيظن السامع أنها تهمس، حتى يتأمل فيما تقول، فيعرف أن كلامها هادر بحسه وأفكاره. لكن «تشي»، المعروف عنه راديكاليته النزقة، فاجأها برد قد يعتبر في ذلك السياق وقحاً (وقاحة الثوار كان دوماً ينظر إليها على أنها جزء من عقائديتهم وهي بذلك يجب أن تكون مغفورة). قال: «أنا لا أقتنع بدور السينما في تغيير حال الشعوب. والفلاحون ليسوا بحاجة إلى أفلام، بل إلى ثورات».
أصداء
بعد نصف قرن على هذه الحادثة، اختفى ذكر «غيفارا»، أو يكاد، من يوميات الأجيال العربية، لأسباب معقدة ومتشعبة لا يتسع المجال هنا لذكرها، إضافةً إلى أن جزء كبيراً من الجيل الذي كان «تشي» يمثل أيقونة له، قام بمراجعة ذاتية، أثمرت في بعض المرات عن ردود أفعال عصابية من قبيل حرق كتبه والانتقال إلى المعسكرات النقيضة تماماً، كاليمين المتطرف أو الطائفي المتعصب، من دون أن ننسى الرأسمالي المتباهي. حدث ذلك تحديداً في شوارع وعلى بلكونات لطالما رفعت صور «تشي» في بيروت وبغداد والقاهرة.
اختفى الذكر، إلا من أصداء كئيبة تتردد في مرات، قبل الفجر، من حانات بائسة يبكي فيها نوستالجيون على وقع أغاني «الشيخ إمام» وكلمات محمد فؤاد نجم، على «غيفارا الذي مات».
في هذا الوقت، كانت فاتن حمامة، لا تزال سيرتها تزدهر مع كل يوم، ومع كل فيلم جديد مع الرجل الذي كانت ملهمته وحبيبته الروحية هنري بركات، وها هي مرة أخرى فلاحة في حقل تجمع فيه غلات العنب، في «أفواه وأرانب» مصر التي كانت أزمة فقرها وعيالها المتكاثرة بدأت بالتفاقم، ثم هي حبيبة الصياد التي تحب وطنها حتى النخاع، وتخاطر بحياتها من أجل المقاومين، لكي تكتشف بعدها أن الفساد في عقر دارها، وفي ذخيرتها التي ربتها للأيام، في أخيها، أي دمها وجيناتها في «ليلة القبض على فاطمة». ثم مع خيري بشارة، تعود سيدة الشاشة في «يوم مر يوم حلو» إلى القاع، نبض القاهرة، لكي تجسد شخصية امرأة تواجه الفقر وتبعاته، والفقدان وأثره، والترمل ودكانته، بحنكة الأم التي تحارب من أجل البقاء على عائلتها ملمومة، ومثالية المرأة المصرية الطيبة التي لا تتلوث روحها مهما اشتدت الظروف.
بقيت فاتن تنتصر إلى المقهورين والفقراء والبسطاء في أدوارها، بعد عقدين من لقائها بالأيقونة الثورية «تشي» الذي مات أيضاً في قضية نصر ذات الفئة. لكن الفارق هنا أن فاتن كانت تلعب دورها بعقائدية أقل، ونزق معدوم، وتعنت غير معروف عنها، وبذلك الحدس الذي يهبه الله لخاصة فقط من الناس الذين يتمكنون دوماً من اختيار وظائف في الحياة تشع بهالة من النور.
الأيقونة المشعة
هكذا هي أيضاً فاتن في أدوارها الأولى في حقبات مبكرة من تاريخ السينما المصرية (أي تاريخ السينما في العالم العربي والعالم)، بمثابة أيقونة رقيقة، تنبض بالمشاعر التي ترفعها وهي تسير على الأرض، كأنها ملاك يحلق ولا يمشي، كأنها فراشة لا ترتدي خفاً. لكنها سرعان ما انتبهت، أن الفراشات مصيرهن الاحتراق، وأن «طريق الملائكة» هذا فيه الكثير من الجميلات اللواتي قد يفقنها جاذبيةً وحتى قدرات تمثيلية غير مستغلة، فمن الجميلات مريم فخر الدين وهند رستم، ومن القديرات في التمثيل شادية، وبينهما نادية لطفي ولبنى عبد العزيز.
وهنا اعتمدت سيدة الشاشة مرة جديدة على حدسها، فقامت بانعطافة كبيرة على مستوى مسيرتها الفنية، واتجهت إلى صفوة من الكتاب والمخرجين والمشتغلين في السينما، من ذوي الرؤى والفهم العميق لوظيفة السينما ودورها في التأثير على المجتمعات وضخ موجات تساند التغيير (بخلاف رؤية تشي)، الأمر الذي مكنها سريعاً من الحفاظ على مكانتها، ولم ينازعها لأجيال طويلة أحد على مقعد «سيدة الشاشة العربية» بما يعكس من معاني قيم احترام العمل والعلاقة مع الذات والآخر والوطن والإنسانية، وأيضاً مع ما يجسده هذا اللقب من ذكاء هائل لامرأة عربية تمكنت دوماً من انتزاع الاحترام من شعوب العرب في مختلف المراحل السياسية والاجتماعية، وفي مختلف مراحلها العمرية.
الجدة الجذابة
يظن من هم في جيلي اليوم، في منتصف الثلاثينات، أن فاتن حمامة هي بمثابة الجدة التي لطالما حلموا بأن يحظوا بها. إنها الجدة ذات التاريخ غير المغمور، بل البرّاق، الممهور بكثير من الصور، عن الأنثى الرقيقة الجذابة، المعشوقة الأبدية التي يكفي أن تحاك حولها الأساطير لمجرد أن رجلاً جذاباً، كما أمراء الحكايات، قبّلها في قلب الوادي.
إنها الجدة التي تتحدث الفرنسية بطلاقة، وتلمع عيناها حين تتحدث عن حب الوطن والعالم العربي، وموقفها من الاستعمار، ومن الأناقة والأنوثة والحب (كما في الفيلم الذي سجله لها التلفزيون الفرنسي منتصف الستينيات أثناء زيارة لها للبنان وتظهر فيه تتجول في قلعة مدينة صيدا البحرية جنوب لبنان).
الحفيد
حين رثى عمر طارق عمر الشريف جدته على صفحته على «فيسبوك»، بعد ساعات من رحيلها، قال إنها لطالما تمسكت بدورها في أن تنير بأفلامها الكثير من الدروب المظلمة على المستويات الفردية والجماعية للشخصية العربية.
قال عمر جونيور: «جدتي، كنتِ تعيشين حياتك نجمة ساطعة، وكنتِ مثالاً جميلاً للإنسانية والأنوثة يحتذى به، علمت كل من حولك القوة والشجاعة والبر والإنسانية، ولم تخش يوماً التحدي ولم تديري ظهرك أبداً لعائلتك وأصدقائك وأمتك والشعب العربي، سنشتاق لكِ دائماً». وأضاف: «شكراً لأنك كنتِ نجمتي، وبمثالك الساطع منحتني الشجاعة لأكون نفسي، أحبك»!