"تشارلز داوتي" من أشهر الرحالة الإنجليز الذين جابوا جزيرة العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ويعد كتابــه الترحال في الصحارى العربية، من كتب الرحلات الكلاسيكية المهمـة، ومعروف أن أسلوب داوتي في غاية الصعوبة والتعقيد، لدرجــة أنه يصعب فهمه أحيانا حتى على أبناء جنسه، كما أن تراكيبه اللغوية تصعب مجاراتها، ولو جاراها من يترجم الكتاب لصعب على القارئ فهم الترجمة.
يقول عنه الناشر الذي تولى نشر كتابه "أسلوب الكتاب غريب لدرجة أنه يصعب فهمه أحيانا"، لذلك حاولت أن اتبع في ترجمة النبذة التالية، طريقا وسطا يحافظ على بعض خصائص أسلوبه مع إزالة ما يعتريه من غموض وتعقيد.
ومن المدن التي زارها داوتي سنة 1878 مدينة حائل في نجد التي قابل فيها أحد شيوخ قحطان "حــزام بن حشر"، وأفــاض في الحديث عن هذه المقابلة، وعن كون (معركة) دخنة بين قحطان من جهة وبين أهالي عنيزة وحلفائهم من مطير من جهة أخرى، وهو الكون الذي قُتل فيه الشيــخ حزام، وكانت مطير تطلب الثأر من قحطان بعد هزيمتهم على أيديهم.
ترحيله إلى بستان خارج البلدة
بعد مغادرتــه حائل توجه داوتي في السنة نفسها إلى عنيزة، وقابـل أميرهــا "زامل"، كمــا عقد صداقة مع عبدالله البســـام وعبدالله الخنيني. لكن أهل عنيزة ضاقـــوا ذرعــا بهذا المسيحي الذي يجاــهر بنصرانيته ويتحدى مشاعرهم. لذلك اضطــر زامل أن يرحّله إلى بستان خارج البلد، وطلب منه أن ينتظــر هناك حتى يحين موعـــد مغادرة قافلـــة السمن التي تنطلــق سنويا من عنيزة إلى مكـــة، ليصحبها إلى آخــر محطة لها قبيـــل وصولها إلى الحـــدود المقدســـة.
ومن هناك يذهب إلى جدة. وقبل مغــادرة القافلة حصل عبداللـــه البسام وعبدالله الخنيني على خطابـــات من الأمير زامـــل إلى أمير القافلــة عبداللـــه، الذي كان من أسرة السليم، يوصيــه بالعنايــة بهذا الرحالة. كما أوصى به ابن بسام إبنه عبدالرحمن الذي صحب القافلة، وكذلك أوصى به عبدالله الخنينـــي قريبه سليمان، أحـــد رؤســاء القافلــة، واستغرقت رحلة القافلة من عنيزة إلى مكة 71 يوما، وصف داوتي وقائعهــا وأورد الكثير من التفاصيل حــول هذه الرحلة التي ســوف أترجم مقتطفات منها.
الطبيب المدعي وشيوخ البادية
ادعى الرحالة داوتي خلال رحلته الشهيرة إلى الجزيرة العربية أنــه طبيب شامي يدعى (الشيخ خليل). وقد التقى بعضاً من أبرز مشايـــخ البادية في ذلك الوقــت، ودوّن معلومات مهمة عن المنطقة وعن أبرز قادتها الذين التقاهم. وسجل انطباعه عن شيوخ البادية، وما وجده من حفاوة وكرم في بلاد صحراء العرب، رغم الظروف الصعبـة والأوضاع السياسية غير المستقـــرة في المنطقة. وحال عودته إلى بلاده بريطانيا، طبع كتاب عنوانه "رحلات في صحراء بلاد العرب" الذي تضمن معلومات جغرافية وتاريخية قيمة. وقد امتدح في كتابـــه شيوخ القبائل الذين زارهم أثناء رحلته، ووصف كرمهم وسخاءهم وحسن ضيافتهـــم، وأبرز هؤلاء الشيوخ الـــذين ذكرهم في أكثر من موضع في كتابه أمثال الشيخ الكريم خلف بن راشد بن ناحل الحربي، شيخ الأحامدة في نجد، وهم من ميمون بني سالم من حرب.
اكتشاف حائل ومشاق الرحلة
في أسلوب أدبي راق، يكتب عن سفرته تلك فيقول:
"ذهبت سيرا على القدمين، أسوق ناقتي الواهنة بخطو بطـــيء إلى أن لمحت أولى هامات النخيل، والخطوط الخضراء من بساتين (الموقَّق) أخيرا. دهشت لرؤية القرية مليئـــة بالخرائب، والكثير من نخيلها يابـــس وذاوٍ، إلى أن علمت أن البلدة قد ضربها الطاعـــون قبل سنوات قليلة. ثم التقينـــا مع الشيخ الطيب الذي جاء لملاقــاتي، قادني بمودة من يدي، وأمر رجله بأن يحـــشّ سويقــات أعشاب خضراء من البستان من أجل جمالنا. وهنا رأيت لأول مرة سلع بغداد، جلبت من سوق حائل:
رجال موقق لم يعودوا يشعلون الغلايين بالصــوان والفولاذ، بل بولاعة الفييناوية (من فيينا) المنتشرة على نطاق العالم، كنا في العالم مرة أخرى! القراءة في حجرة معتمة
كان القرويون ذوو مزاج لطيف، وكانوا يسلون أنفسهم بالتحادث مع الغريب عن البلدان والأديان القديمة، فقد كانوا يوحون أن الوثنيين لا يزالون يقاومون الحقيقة، وبالأخص النصارى.
كانوا يوصلون إليَّ من حين إلى آخر غليوناتهم المسالمة. فكرت في ذروة التعب بطعم تبغهم الأخضر المر، ذي الحلاوة التي لا تضاهى.
في تلك الأثناء، سألنــي شاب، هل يمكنني أن أقرأ؟ هل لدي كتب؟ كان من (موقق) وأستاذهـــم. وضعت في يده كتاب جغرافيا باللغــة العربية، كتبه مبشر أميركي مثقف من بيروت. تمعن الشاب فيه وثبت نظره فوقــه في الحجرة المعتمة، بمثل هذا التعلق الظمآن بالآداب، كتلك التي نضجت في بلاد أكثر سعادة في حقول المعرفة الكبيرة: وهو يغــلق الكتاب أخيراً، عندما كانت الشمس تهبــط نحو المغيب، وضعه على رأسه كعلامة على مدى تقديره العالي له، إنها إيماءة شرقية لم أرهـــا مرة أخرى في الجزيرة العربية، حيث يوجد القليل جداً من الكتب (إن لم ينعدم تماماً) عن الاستشراق. سألني (هل يمكنه أن يشتري الكتاب؟) فلبيت طلبه هذا.
الشعر والرحلة لا يفترقان
تشارلز داوتي (1843 1926)، شاعر ورحالة إنجليزي. (من صنف الرحالة العلماء)، درس الجيولوجيا في جامعة كمبردج، وقام برحلة استكشافية إلى المناطق المتجمدة وهو في العشرين من عمره، ثم قرر الانصراف لخدمة لغته الإنكليزية، ودرس اللغتين الدانماركية والهولندية.
عبور صحراء سيناء
بدأ داوتي رحلاته بإسبانيا وإيطاليا ثم ذهب إلى اليونان فـــمصر حيث وصل القاهرة عام 1875، ثم عبر صحراء سيناء حتى وصل مدينة البتراء، وقد سمع عن مدائن صالح المدينة الأثرية في شمالي الحجاز، التي لم ينجح كل من بوركهارت وبيرتون في الوصول إليها، وعزم داوتي على مشاهدتها، فانضم إلى قافلة للحج تحت اسم مستعار (خليل)؛ وصل إلى مدائن صالح في نوفمبر 1876م، واستطاع أن يتجول في المنطقة مستنسخاً الكتابات والرسوم المنقوشة في واجهات المقابر، وبدلاً من العودة مع الحجاج إلى دمشق آثر داوتي حياة البداوة، وعاش مع جماعة بدوية وتجول معهم.
داوتي في قافلة الحجاج
في الخامس من يوليو 1878م توجه مع قافلة للحجاج إلى الحجاز، ووصل الطائف ثم توجه إلى جدة في أغسطس 1878، وكتب كتابه "الجزيرة العربية الصحراوية"، ورسم فيه صورة فريدة من نوعها عن الجزيرة، كما كتب عن حياة البدو وما يقاسونه من معاناة وشدة. أهم أعماله كتاب "الترحال في صحارى العرب" الذي كتبه عام 1888 وهو عبارة عن قصته عندما جاء عام 1876م ومكث عدة سنوات، جال من خلالها في أجزاء من الجزيرة العربية تحت اسم مستعار "خليل".