إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.
والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.
فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.
أمر الله تعالى بالعدل، فالعدل ميزان الله تعالى في الأرض الذي يؤخذ به للضعيف من القوي، وأن ليست كل النفوس تصلح على العدل، بل تطلب الاحسان وهو فوق العدل، فقال سبحانه وتعالى: ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى) سورة النحل الآية 90.
كما إن أفضل الأيام ثوابا أيام العدل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة).
العدل مرمتها
كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز يشكو إليه من خراب مدينته، ويسأله مالا يرممها به. فكتب إليه عمر: قد فهمت كتابك، فإذا قرأت كتابي فحصن مدينتك بالعدل، ونقِ طرقها من الظلم فإنه مرمتها (اصلح) والسلام.
ومن كلام كسرى: (لا ُملك إلا بالجند، ولا جند إلا بالمال، ولا مال إلا بالبلاد، ولا بلاد إلا بالرعايا، ولا رعايا إلا بالعدل).
ويروى أن يهوديا قال لعبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين إن بعض خاصتك ظلمني فأنصفني منه، وأذقني حلاوة العدل. فأعرض عنه. فوقف له ثانيا فلم يلتفت إليه، فوقف له مرة ثالثة وقال له: يا أمير المؤمنين إنّا نجد في التوراة المنزلة على كليم الله موسى، أن الإمام لا يكون شريكاً في ظلم أحد حتى يرفع إليه، فإذا رُفع إليه ذلك ولم يُزله، فقد شاركه في الظلم والجور. فلما سمع عبد الملك كلامه فزع وبعث في الحال إلى من ظلمه فعزله وأخذ لليهودي حقه.
الملك وصاحب البقرة
يحكى أن ملكا من الملوك خرج يسير في مملكته متنكرا، فنزل على رجل له بقرة تحلب قدر ثلاث بقرات، فتعجب الملك من ذلك وحدثته نفسه بأخذها، فلما كان الغدُ حلبت له النصف مما حلبت بالأمس فقال له الملك، ما بال حليبها نقص هل رَعَت في غير مرعاها بالأمس؟ فقال الرجل: لا، ولكن أظن أن ملكنا رآها أو وصله خبرها فهم بأخذها فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو هم بالظلم ذهبت البركة. فتاب الملك وعاهد ربه بأن لا يأخذها، ولا يحسد أحداً من الرعية، فلما كان من الغد حلبت كعادتها.
قال الشاعر: فلم أرَ مثل العدل للمرء ِ رافعاً/ ولم أرَ مثل الجور للمرءِ واضعا
وقيل العدل أساس المُلك، و.. صلاح الرعية بصلاح الإمام، و.. الناس تبعٌ لإمامهم في كل أمر، وقيل.. كلكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته، و.. ليس من العدل سرعة العذل.
معادلات
قال عمرو بن العاص: لا سلطان إلا برجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.
وقال الشاعر: لا يهدم الدهرُ ركناً شاد عدلهم/ وحائط البغي إن تلمسه ينهدمُ.
ويقال: ولا تبِع الحق بالمال فذاك بئس الاعمال. وقيل: أعدل السير أن تقيس الناس بنفسك فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتىَ إليك.
وقال الشاعر: ما اليتمُ فقد الأب لكنه/ في الحق فقدُ الحاكم العادلِ.
وقال شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم حسَّان بن ثابت: متى ما تقد بالباطل الحق يأبه/ وإن قُدت بالحق الرواسي تنقدِ/ متى ما أتيت الأمر من غير بابه/ ضللت وإن تدخل من الباب تهتدِ.
قال جبران: ليس من يصغي للحق بأصغر ممن ينطق بالحق.
قال الشاعر: ألم ترَ أنَّ الحق تلقاه أبلجا/ وأنك تلقى باطل القولِ لجلجا.
وقيل: ما مات حقُ فتىً له زندٌ له/ كفٌ لها سيفٌ له حدَّانِ.
وقيل: من صارع الحق صرعه، و.. الحق نطاح، و.. ما مات حق وراءه مطالب، و.. الحق يعلو ولا يُعلى عليه، و.. صاحب الحق عينه قوية، و.. قل الحق ولو على نفسك، وكلمة الحق مرة، و.. الساكت عن الحق شيطان أخرس، و.. من أماله الباطل قوّمه الحق، و.. واعلم أن من نأى عن الحق ضاق مذهبه.
"كلمة حق يراد بها باطل"
عندما سمع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قول الخوارج (لا حكم إلا لله) بعد معركة صفين المشهورة، عندئذ قال كلمته الخالدة.. (كلمة حق يراد بها باطل).
قال الشاعر: أد الأمانة والخيانة فاجتنب/ واعدل ولا تظلم يطيب المكسبُ.
وقيل: يحق الحق حتماً دون شك/ وإن كره المشكك والألدُ/ صريحُ الحق قد يخفىَ ولكن/ بُعيد خفائه لاشك يبدو.
قال بعضهم: لا يشعر الجاهل بالجهل كما/ لا يشعر السكران إلا إن صحا/ لا يعرف الصحيح قيمة لِما/ كان من الصحة حتى يُبتلىَ/ لا يحمد القوم الفتى إلا متى/ مات فيعطى حقه تحت البِلى.
رأي الإمام الشافعي
أرى راحة للحق عند قضائهِ/ ويثقل يوماً إنْ تركت على عمدِ/ وحسبك أن تُرى غير كاذبٍ/ وقولك لم أعلم وذاك من الجهدِ/ ومن يقضِ حقَّ الجار بعد ابن عمه/ وصاحبه الأدنىَ على القربِ والبعدِ/
يعش سيداً يستعذب الناس ذكرهُ/ وإن نابه حقٌ أَتَوّه على قصدِ.
عدالة عمر بن الخطاب
عن عبدالله بن عمر قال اشتريت إبلاً ورجعتها إلى الحِمىَ فلما سمنت قال: فدخل عمر رضوان الله عليه السوق فرأى إبلاً سماناً فقال: لمن هذه الإبل السمينة؟ فقيل: لعبدالله بن عمر، فجعل يقول: يا عبدالله بن عمر يا عبدالله بن عمر.... ابن أمير المؤمنين، قال: فجعلت أسعى فقلت: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها إلى الحِمىَ، ما يبتغي المسلمون، قال: يقال ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبدالله ابن عمر، أغد على رأسمالك، واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.
الظلم مرتعه وخيم
قال صفي الدين الحلي: لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً/ فالظلم مصدره يفضي إلى الندمِ/ تنام عيناك والمظلوم منتبه/ يدعو عليك وعين الله لم تنمِ.
واشتهر في الجاهلية هذا القول: "ظلمُ الأقارب أشد مضضاً من وقعِ السيف" فأخذه طرفة بن العبد وقال: فظلم بني القربىَ أشد مضاضةً/ على المرءِ من وقع الحُسامِ المهندِ.
وقيل: إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك.
قال الشاعر: وما من يد إلا يد الله فوقها/ وما ظالم إلا سيبلىَ بأظلمِ/ تأنَّ ولا تعجل لأمرٍ تريده/ وكن راحماً للناس تبلى براحمِ.
وقيل: وحق الله أن الظلم لؤم/ وإن الظلم مرتعه وخيمُ/ إلى الديان يوم الدين نمضي/ وعند الله تجتمع الخصومُ.
قالت العرب: إنك لا تجني من الشوك العنب، و.. هذه بتلك، و.. والبادئ أظلم، و.. كفىِ بالله للمظلوم ناصراً، و.. من استرعى الذئب ظلم، و.. من اشبه أباه فما ظلم.
قال الشاعر: ما زال يظلمني وارحمه/ حتى رثيت له من الظلمِ
قيل: عش راضيا واهجر دواعي الألم/ واعدل مع الظالم مهما ظلم
قال الشاعر: إن يبغَ ذو جهل عليك فخله/ وارقب زمان الانتفاع الباغي/ وتجنب الظلم الوخيم فلو بغىَ/ جبلٌ على جبلٍ لدك الباغي.
قال محمد مهدي الجواهري: من بعد ألفٍ من سلالة ظالم/ من قبل ألفٍ يثأر المتظلم.
فيه وعليه
قيل ثلاثة من كن فيه كن عليه: البغي، والنكث، والمَكْر.
تقول العرب: (ابدأهم بالصراخ يفروا) وهذا المثل يُضرب في الظالم يصرخ ليسكتوا عنه.
وصية وأقوال
أوصى علي بن أبي طالب الحسن والحسين قائلا: (كونا للظالم خصماً والمظلوم عوناً).
وقال أحد الشعراء: لقد كان فينا الظلمُ فوضى فهذبت/ حواشيه بات ظلماً منظما
وقيل: والظلم من شيم النفوس فإن تجد/ ذا عفةٍ فلعله لا يظلمُ.
وقيل قديما: البغي آخر مدة القوم، و.. إن الظلم إذا امتد أذن بانقراض القوم، و.. إذا ظلمت من دونك فلا تأمن عذاب من فوقك، و.. دار الظالمين خراب، و.. دار الظالم خراب ولو بعد حين، و.. لكل ظالم نهاية.
وقال الشاعر: ما طار طير وارتفع/ إلا كما طار وقع
وقيل: بليتُ بما قد كنت تبلى بمثله/ ولا ظالم إلا سيبلىَ بظالمِ
قيل: إذا قام جناة الشر فأقعد، و.. إياك والبغي فإنه عقال النصر، و.. إذا ظلمت فاحذر.
قال الإمام الشافعي: إذا ما ظالمُ استحسن الظلم مذهبا/ ولجَّ عتواً في قبيح اكتسابهِ/ فكِلهُ إلى صرف الليالي فإنها/ ستدعو له ما لم يكن في حسبانهِ/ فكم قد رأينا ظالماٍ متمردا/ يرى النجمَ تيهاً تحت ظل ركابهِ/ فعما قليلٍ وهو في غفلاتهِ/ أناخت صروف الحادثات ببابهِ/ وجُوزيَ بالأمر الذي كان فاعلاً/ وصبَّ عليه الله سوط عذابهِ.
عن الملوك والسلاطين
قال الشافعي ماذا تؤمل من قومٍ إذا غضبوا/ جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا
قال بعض الحكماء: إذا زادك السلطان تأنيساً فزده إجلالاً، وإذا جعلك أخاً فاجعله أباً، وإذا زادك إحساناً فزده فعل العبد مع سيده، وإذا دخلت على السلطان مع الناس فأخذوا في الثناء عليه، فعليك بالدعاء له ولا تكثر.
وروي أن بعض الملوك استصحب حكيما فقال له: أصحبك على ثلاث خصال قال: وما هن؟ قال: لا تهتك لي سراً، ولا تشتم لي عرضاً، ولا تقبل فيّ قول قائل حتى تستشيرني. قال: هذا لك، فماذا لي عليك؟ قال: لا أفشي لك سراً، ولا أدخر عليك نصيحة، ولا أُثر عليك أحداً. قال: نعم الصاحب المستصحب أنت.
ويقال عن السلطان العادل: إن السلطان ظل الله في ارضه يأوي إليه كل مظلوم.
وقال الشاعر: جانب السلطان واحذر بطشه/ لا تعاند من إذا قال فعل.
وقيل: لا تغتر بمودة الأمير، إذا غشك الوزير، و.. سلطان غشوم خير من فتنة تدوم.
وقيل: ويُرى الناس والملوك سواءً/ وهل الناسُ والملوك سواءُ؟
وقال بعضهم في ولاة بني مروان: إذا ما قطعتم ليلكم بمدامكم/ وأفنيتموا أيامكم بمنامِ/ فمن ذا الذي يغشاكم في ملمّة/ ومن ذا الذي يغشاكم بسلامِ/ ولم تعلموا أن اللسان موكل/ بمدح كرام أو بذم لئام.
قال الله تعالى: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) سورة النمل الآية 34.
هذا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب، وحسبنا الله ونعم الوكيل فهو نعم المولى ونعم النصير.