إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.

والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.

فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.

 

اقدم اليوم مختارات من عيون التراث، في مناسبات الأمثال وأسبابها بين الدعابة والجد والفشل. وضرب الله الامثال في كتابه العزيز فقال في سورة العنكبوت: (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) آية 43.

وفي الحديث الموقوف عن عبدالله ابن مسعود (أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة).

(الجود من الموجود)

 

يُروى أن رجلاً اقترض مبلغاً من المال وعندما حل موعد سداده ولم يستطع ذهب إلى صديق له وأخبره، فسأله صديقه، ما مقدار المبلغ الذي تطلبه؟ فقال: ألف دينار. فأعطاه نصف المبلغ، فقال له: هذا لا يلبي طلبي ولا ينطبق على ما عهدتك به. فرد عليه صديقه قائلاً: (الجود من الموجود) فأخذ منه المبلغ.

وورد في لسان العرب (غاية الجود بذل الموجود). ويقال أيضاً (الجود بالمجود منتهى الجود).

قال الشاعر: ما كلف الله نفساً فوق طاقتها/ ولا تجود يد إلا بما تجد.

يقال: (رجع بخفي حُنين). ويقال أن اعرابياً اسمه حنين وهو اسكافي أي يصنع أحذية. أراد أحد أن يشتري منه خفين فاختلفا على السعر، فأراد حنين أن يعمل فيه مقلباً، أو (مقلب) ولما رحل الرجل أخذ حنين أحد خفيه ورماه في الطريق ثم رمى الآخر في مكان آخر، فلما مرَّ الرجل بإحداهما قال: ما أشبه هذا الخف بخف حنين، ومضى. فلما انتهى إلى الآخر ندم على تركه الأول، فلما رجع الرجل ليأخذ الأول سرق حنين راحلته وما عليها. وعندما عاد الرجل إلى قومه وليس معه إلا الخفان سأله قومه: ماذا جئت به من سفرك؟ قال: جئتكم بخفي حنين. فذهب هذا مثلاً يُضرب عند الرجوع بالفشل.

قال الشاعر: أراني ولا كفران لله راجعاً/ بخفي حُنين من نوال ابن حاتمِ.

وقيل أيضاً: وما زلت اقطع عرض البلادِ/ من المشرقينِ إلى المغربينِ/ واذرع الخوف تحت الرجاءِ/ واستصحب الجديَ والفرقدينِ/ واطوي وانشر ثوب الهمومِ/ إلى أن رجعت بخفي حُنين.

ويقال أيضاً: غاب حولين، وجاء بخفي حُنين.

قطعت جهيزة قول كل خطيب

 

وأصل المثل أن قوماً اجتمعوا يتشاورون في صلح بينهم، قتل أحدهما من الآخر قتيلاً، ويتفاوضون على مبلغ الدية وقبولها، وبينما هم في ذلك دخلت امرأة اسمها جهيزة وقالت: إن القاتل قد ظفر به بعض أولياء المقتول وقتلوه. فقالوا عند ذلك: قطعت جهيزة قول كل خطيب.

ويقال (في الصيف ضيعتِ اللبن) عن اعرابية كانت متزوجة رجلا كبير السن وكرهته فطلقها، ثم تزوجها فتى جميل الوجه ولكنه قليل المال، فبعثت إلى زوجها السابق تطلب منه فقال: (في الصيف ضيعتِ اللبن) فلما رجع الرسول وقال لها ما قال طليقها ضربت يدها على منكب زوجها وقالت: (هذا ومذقه خير) تعني أن هذا الزوج مع عدم اللبن؛ خير من زوجها السابق.

فالمثل: (في الصيف ضيعت اللبن) يُضرب لمن يطلب شيئاً فوَّته على نفسه.

أما المثل (هذا ومذقه خير) يُضرب لمن قنع باليسير، وإنما خُص الصيف لأن طلبها الطلاق كان في فصل الصيف.

إن غداً لناظره قريب

 

يُحكى أن النعمان بن المنذر خرج ذات يوم للصيد فضلَّ طريقه، فلجأ إلى بيت رجل يعرفه من طيء فآواه واكرمه وأحسن ضيافته من دون أن يعرفه، وعندما هم النعمان بالرحيل في اليوم التالي قال له: اطلب ما تشاء، فقال الرجل: أفعل إن شاء الله. وظل لا يفارق داره إلى أن أصابته نكبة وساءت حاله فقالت له زوجته: اذهب إلى الملك النعمان فيحسن إليك. فذهب إلى النعمان وتصادف وصوله إلى القصر في يوم بؤسه، فعرفه النعمان وقال له: أليس أنت الطائي؟ قال: نعم. قال: أفلا جئت في غير هذا اليوم؟ والله لو رأيت في هذا اليوم ابني ما ترددت في قتله. فاطلب ما تشاء قبل أن أقتلك فأنت ميت لا محالة.

قال الرجل: ما أصنع بالدنيا بعد نفسي، وإن كان ولابد من قتلي فاتركني أذهب إلى أهلي وأوصي لهم، ثم أعود إليك تفعل بي ما تشاء، قال النعمان: أحضر لي كفيلاً يكفلك حتى تعود. التفت يمنة ويسرة والكل يشيح بوجهه عنه إلى أن وثب رجل يدعى قراد بن اجدع وقال: أنا أكفله حتى يحول الحول ويرجع. عندئذ أمر النعمان له بالنوق والمال بعدما تأجل مقتله عاماً كاملاً.

ولما حال الحول ولم يبق منه إلا يوم واحد قال النعمان لقراد: ما أراك إلا هالك غداً وصاحبك لن يأتي، فقال قراد ) إن غدا لناظره قريب) وهو أول من قال هذا المثل.

وبينما كانت الشمس تميل نحو الغروب في اليوم التالي إذ بشخص يلوح لهم من بعيد في نفس اللحظة التي كاد يُقتل فيها قراد، وعندما تبين أنه الطائي قال له النعمان: ما حملك على الرجوع يا هذا وقد أفلتَّ من القتل؟ قال الطائي: الوفاء أيها الملك، فعفا عنه كما عفا عن كفيله قائلاً: والله ما أدري أيهما أوفى وأكرم من صاحبه. ويُضرب هذا المثل في الحث على عدم التسرع أو استعجال الأمور.

عند جهينة الخبر اليقين

 

يحكى أن الحصين بن عمرو خرج مع رجل من جهينة واسمه الاخنس، وهما من صعاليك العرب وتعاهدا على السلب والنهب، وحدث أن لقيا رجلاً معه مال كثير وكان يأكل فدعاهما إلى الطعام فأكلا وشربا معه، وفي غفلة من الاخنس قتل الحصين الرجل وأخذ الاخنس يلومه. فقال له الحصين اسكت فلهذا وقتله خرجنا. وانتهز الاخنس غفلة من الحصين وقتله، وانصرف وفي طريقه وجد امرأة الحصين تبحث عنه فقال لها: أنا قتلته، فقالت المرأة: ومن أنت حتى تقتله، فقال: تُسائل عن حُصينِ كل راكبٍ/ وعند جهينة الخبرُ اليقينُ/ فمن يكُ سائلاً عنه فعندي/ لصاحبه البيان المستبينُ.

ويقول شاعر آخر: تُسائلُ عن أبيها كل ركبٍ/ وعند جهينة الخبر اليقينُ. ويُضرب هذا المثل في معرفة الشيء على حقيقته.

زرقاء بني نمير

 

وقيل: لا اعرف الذلَّ إلا/ عند السجودِ لربي/ وأنتِ يا مصرُ ماذا/ يا خير أرضٍ وشعبِ.

ويقال: عجبت لمن يعيش بدار ذل/ وأرضُ الله واسعة فلاها.

قال المتلمس: وما يقيم بدار الذل يعرفها/ إلا الأذلان عيرِ الحي والوتدِ/ هذا على الخسف مربوط برقبته/ وذا يشبُّح ما يبكي على أحدِ.

ويقال: هذا امر لا تبرك عليه الإبل. ويضرب هذا المثل للأمر الذي لا يُصبَر عليه.

ويقال: أذل الناس معتذرٌ إلى لئيم.

ويقال: (هذا احق منزلٍ بتركٍ) يضرب هذا المثل لكل شيء استحق أن يترك.

ويقال أبصر من زرقاء اليمامة. هي زرقاء بني نمير، امرأة كانت باليمامة تبصر الشعرة البيضاء في اللبن، وترى الراكب من على مسيرة ثلاثة أيام، حتى احتال عليها بعض من غزاهم، فأمر أصحابه فقطعوا شجراً وأمسكوه أمامهم بأيديهم، نظرت زرقاء فقالت: إني أرى الشجر قد أقبل اليكم، قالوا لها: قد خرقتِ ورق عقلكِ وذهب بصركِ، فكذبوها وصبحتهم الخيل وأغارت عليهم وقُتلت زرقاء.

متفرقات متشابهات

 

يقال الكلام لكِ يا كنة واسمعي يا جارة، ويقال أيضا: إياك أعني فاسمعي يا جارة. هذا مثل مشهور الاستعمال عند التعريض بإظهار شيء والمقصود شيء آخر.

يقول نهشل بن مالك الفزاري في عشق فتاة: يا أخت البدو والحضارةْ/ كيف ترين في فتى فزارةْ؟/ أصبح يهوى حرة معطارةْ/ إياك أعني واسمعي يا جارةْ؟

وقال عمرو بن ابي ربيعة: إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا/ لكي يحسبوا أنَّ الهوى حيث تنظرُ.

قال الشاعر: اكرر طرفي نحو نجد وإنني/ إليه وإنْ لم يدرك الطرف انظرُ/ وما نظري من نحو نجد نافعي/ أجل لا، ولكني إلى ذاك أنظرُ/ أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي/ خيام بنجد دونها الطرف يقصرُ.

وقال آخر: ألا حيِّ الديار بعدَ إني/ احب لحب فاطمة الديارا.

قال عمرو بن قِعاس المرادي شاعر جاهلي: ألا يا بيتُ بالعلياءِ بيتُ/ ولولا حبُّ اهلك ما أتيتُ/ ألا يا بيتُ أهلك أوعدوني/ كأني كلَّ ذنبهم جنيتُ.

وقال آخر: كأنها من نيقة وشارةْ/ والحلي بين التبنِ والحجارةْ/ مدفعُ ميثاءَ إلى قراهْ/ لكِ الكلام واسمعي يا جارةْ. وقال قيس بن الملوَّح: أمر على الديارِ ديار ليلى/ والثم ذا الجدار وذا الجدارا/ وما حب الديار شغفن قلبي/ ولكن حب من سكن الديارا.

قول خالد بن الوليد

 

يقال: (عند الصباح يحمدُ القومُ السرى) يضربُ هذا المثل لمن يحتمل المشقة ثم يجد بعدها الراحة.

يحكى أن أبا بكر الصديق أرسل خالد بن الوليد على رأس جيشه من العراق إلى الشام لدعم المسلمين هناك، وأن خالد بن الوليد هو أول من قال هذا المثل عندما وصل إلى الشام.

قال خالد بن الوليد: لله در رافع أنىَّاهتدى/ فوَّز من قراقر إلى سُوى/ خمساً إذا سار به الجيش بكى/ ما سارها من قبله انسٌ يُرى/ عند الصباح يحمد القوم السرى/ وتنجلي عنهم غيابات الكرى.

يقال ولما اشتد ساعده رماني: ويضرب هذا المثل في كفران النعمة ونكران الجميل، قيل: سمَّن كلبك يأكلك. أراني وعوفاً كالمسمن كلبه/ فخدشه انيابه وأظافره.

قال الشاعر: دعوت الله أن تسمو وتعلو/ على النجم في افقِ السماءِ/ فلما أن سموت بعدت عني/ فكان إذاً على نفسي دعائي.

المعروف في غير شاكر

 

يحكى أن اعرابياً ربَّى جرو ذئب، فلما كبر هجم على شاة واكلها فقال فيه الاعرابي: أكلت شويهتي وربيتَ فينا/ فمن أنبأك أنَّ اباك ذيبُ.

ويقال: كمُجير ام عامر: ومن يصنع المعروف مع غير أهله/ يلاقِ الذي لاقىَ مجيرُ ام عامرِ/ أدام لها حين استجارت بقربه/ لها محض اللبان اللقاح الدرائرِ/ واسمنها حتى إذا ما تكاملت/ فرته بأنياب لها وأظافرِ/ فقل لذوي المعروف هذا جزاء من/ بدا يصنع المعروف في غير شاكرِ.

وام عامر هي كنية الضبعة التي رباها الاعرابي وهي صغيرة، وعندما كبرت هجمت عليه واكلته من بطنه، وعندما جاء أخوه ووجده على هذه الحالة عرف ان الضبعة هي التي افترسته.

قال الشاعر: فيا عجباً لمن ربيت طفلاً/ القمهُ بأطراف البنانِ/ اعلمه الرماية كل يوم/ ولما اشتد ساعده رماني/ اعلمه الرواية كل يوم/ فلما قال قافية هجاني/ اعلمه الفتوة كل وقت/ فلما طر شاربه جفاني.

ويقال: (جزاء سنمار) وقصة سنمار هي أن أحد الملوك قرر بناء قصر لا مثيل له في كل المعمورة واختار لهذه المهمة افضل الصناع في المملكة واختار من بينهم كلهم (سنمار) وعندما انتهى سنمار من بناء القصر وكان روعة وتحفة زمانه في الهندسة والتشييد، قرر الملك قتل سنمار حتى لا يبني قصرا مثله لأي ملك آخر، وأمر جنوده برمي سنمار من فوق القصر فسقط على الارض جثة هامدة، وكان هذا جزاء سنمار.

قال الشاعر شرحبيل الكلبي: جزاني جزاء الله شر جزائه/ جزاء سنمار وما كان ذا ذنبِ/ سوى رصة البنيان سبعين حجة/ يعمل عليه بالقراميد والسكبِ/ فلما رأى البنيانَ تم سحوقهُ/ ورَضَ كمثلِ الطودِ ذي الباذخ الصعبِ/ وظن سنمار به كل خيرهِ/ وفاز لديه بالمودة والقربِ/ فقال اقذفوه بالعلجِ من رأس شاهقٍ/ فذاك لعمر الله من اعظم الخطبِ.

مكسب الأيام

 

يقال: (إذا ابتسمت لك الايام اكسبها). وقال الشاعر: فرصتك اليوم فاغتنمها/ فكل وقتٍ سواه فاني.

وقال آخر: بادر إلى العيش والأيام راقدةٌ/ ولا تكن لصروف الدهر تنتظرُ/ فالعمرُ كالكأسِ يبدو في اوائله/ صفوٌ وآخرهُ في قعرهِ الكدرُ.

وقيل: اذا درت نياقك فاحتلبها/ فما تدري الفصيل لمن يكون.

 

صحيفة المتلمس

يضرب هذا المثل لمن يسعى الى هلاك نفسه والمتلمس من الشعراء الصعاليك واسمه عبد المسيح بن جرير وفد هو وابن اخته طرفة بن العبد على عمرو بن هند ملك الحيرة فكان يشرب فيقفان على بابه كل النهار ولا يصلان اليه فهجاه طرفة ولما بلغ ذلك عمرو بن هند هم بقتل طرفة وخاف من هجاء المتلمس فقال له: لعلكما اشتقتما لأهلكم فقالا نعم. فكتب لهما بصحيفتين وختمهما وقال لهما: اذهبا الى عاملي بالبحرين فقد امرته ان يصلكما بجوائز.

ويقال ان المتلمس وصل الى البحرين وقتله عامل الملك وفي رواية أخرى لم يصل. قال الشاعر: من مبلغُ الشعراء عن اخويهم/ نبأ فتصدقهم بذاك الانفسُ/ أودي الذي علق الصحيفة منهما/ ونجا حذار جيائه المتلمسُ/ ألقى صحيفته ونجت كورَهُ/ وجنا محمرة المناسم عِرمِسُ.