إذا ما اشتدت وطأة الحياة وتأزمت الكلمة وعجز العقل عن التمييز بين الواقع والخيال، أو بين الشيء ونقيضه، عندئذ نلجأ للحكمة التي هي خلاصة تجارب الناس لمئات السنين.
والحكمة لا تأتي إلا من تجربة، والتجربة لا تأتي إلا بالعمل، وقيل قديما: اسأل مجرب ولا تسأل طبيب.
فما أحوجنا اليوم لمثل تلك التجارب. نتزود بها حكمة وعبرة، بما يعزز لغتنا وقيمنا، ويتصدى لما يعتورهما من تشويه أو تقصير. وفي هذه الصفحة سأتناول مختلف المواضيع وأبحث عن التجارب وأقف معكم على صفات وأخلاقيات البشر وحالاتهم.. بين الترح والفرح، كل ذلك في وجبات يومية استخلصتها من التراث العربي الأصيل لأقدمها في هذه المساحة زاداً رمضانياً ننهل منه جميعنا.
لم يتبقَ من رمضان إلا القليل وأجد نفسي ملزماً بأن اختصر فخير الكلام ما قل ودل وباب الشباب والمشيب قد يطول، ولكنه سيطول على حساب أبواب أخرى، لذا فضلت أن أتطرق إلى مواضيع عدة حتى أتمكن وبقدر المستطاع تغطية حيز وافر من الأمثال، ولذلك سوف تشمل الصفحة من الآن فصاعداً وإلى نهاية الشهر الكريم مواضع قصيرة ومختصرة.
الشباب والمشيب
قيل لشيخ أخبِرنا عما رأيت في سالف عمرك؟ قال: رأيت الدنيا ليلة في أثر ليلة، ويوماً في أثر يوم، ورأيت الناس بين جامع حال مفرَّق، ومفرِّق مال مجموع، وبين قوي يَظلم، وضعيف يُظلم، وصغير يكبر، وكبير يهرم، وحي يموت وجنين يولد، وكلهم بين مسرور بموجود، ومحزون بمفقود.
قيل: صاح شاب بشيخ أحدب.. بكم ابتعت هذا القوس ياعماه؟
فقال: يا بني إني أُعطِيتها بغير ثمن.
ومر رجل اشمط (الشعر الأبيض يخالط الشعر الأسود) بامرأة جميلة فقال: يا هذه إن كان لكِ زوج فبارك الله لكِ فيه، وإلا فأعلمينا، فقالت: كأنك تخطبني، قال: نعم. قالت: إن فيَّ عيباً. قال: وما هو؟ قالت: شيب في رأسي. فثنى عنان دابته، فقالت: على رسلك فلا والله ما بلغت عشرين سنه، ولا رأيت في رأسي شعرة بيضاء، ولكني احببت أن أعلمك إني أكره منك مثل ما تكره مني، فأنشد بيتاً: رأين الغواني الشيب لاح بمفرقي/ فأعرضن عني بالخدود النواضر.
ويقال في الرجل إذا شاب: (ليله عسعس وصبحه تنفس).
تمنِّي
قال العتيبي: قالت عهدتك مجنوناً فقلت لها/ إن الشباب جنون برؤه الكبر.
وقال آخر: عريت من الشباب وكنت غصناً/ كما يُعرى من الورق القضيب/ ونحتُّ على الشباب بدمع عيني/ فما نفع البكاء ولا النحيب/ فيا ليت الشبابُ يعود يوماً/ فأخبره بما فعل المشيب.
وقال شاع آخر: تحن العظام الراجفات من البلىَ/ وليس لداءِ الركبتينِ طبيبُ.
وقالت الحكماء: ما زاد شيء إلا نقص. و.. آلة العيش صحة وشباب، و.. الشباب مطية الجهل.
من العناء رياضة الهرِمِ
دخل أعرابي على المنصور فقال له شيئاً لتوبيخه فرد عليه الأعرابي قائلاً: اتروض عرسك بعدما كَبرت/ ومن العناء رياضة الهرِمِ.
فلم يسمعه المنصور لضعف صوته، فقال المنصور لوزيره الربيع: ما يقول الشيخ؟ قال: انه يقول: العبد عبدكم والمال مالكم/ فهل عذابك عني اليوم مصروفُ.
فأمر بإطلاقه واستحسن من الربيع هذا الفعل.
الأندلسي والمرآة
إنه ابن زهر الأندلسي وهو محمد بن عبدالملك بن زهر الأندلسي من اشبيليا، وكان من أقوى الرماة بالقوس، ومن مهرة اللعب بالشطرنج ومن ظرفاء الشعراء قال: إني نظرتُ إلى المرآة اسألها/ فأنكرت مقلتاي كلَّ ما رأتا/ رأيت شيخاً لستُ اعرفُهُ/ وكنتُ اعهدُ فيها قبل ذاك فتىَ/ فقلتُ: اين الذي بالأمسِ كان هنا؟ متى ترحَّل من هذا المكان متى؟ فأستجهلتني وقالت لي وما نطقت:/ قد كان ذاك، وهذا بعد ذاك أتى.
فضل الشباب
روي عن ابن عباس أنه قال: ما بعث الله نبياً إلا شاباً، ولا أُوتي العلم عالم إلا شاباً، ثم تلا هذه الآية: (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم). سورة الأنبياء الآية 60. وقد أخبر الله تعالى به، ثم آتى يحيى بن زكريا الحكمة قال تعالى: (وأتيناه الحكم صبياً) سورة مريم الآية 12.
هذا، وما بكت العرب على شيء بقدر ما بكت على الشباب، ولو لم يكن هذا الشباب حميداً وزمانه حبيباً لوسامة صورته، وبهجة منظرة، وجمال خلقته، واعتدال قامته.
قال الشاعر: لله أيام الشباب وعصرهُ/ لا يستعارُ جديدهُ فيعارُ/ ما كان اقصر ليله ونهارهُ/ وكذلك ايام السرورِ قصارُ.
وقال آخر: وإذا اديمُ الوجه اخلقه البلىَ/ لم ينتفع فيه بحسنِ خضابِ/ ما الشيبُ عندي والخضابُ لواصفٍ/ إلا كشمسٍ جُللت بسحابِ/ تُخفىَ قليلاً ثم يقشعها الصبا/ فيصير ما سُترتُ به لذهابِ.
فضل العلم والعلماء
قال الله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) سورة فاطر الآية 28، وقال تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) سورة المجادلة آية 11. وعن معاذ بن جبل وهو الصحابي الجليل وكان أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهو أحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم-.
شهد بدراً وأُحداً والخندق، وشهد العقبة مع الأنصار السبعين، تُوفي سنة 639م قال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة، ودراسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه عبادة، وتعليمه صدقة، وبذله لأهله قربة لأنه معالم الحلال والحرام وبيان سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة.
والمحدث في الخلوة، والجليس في الوحدة، والصاحب في الغربة، والدليل على السراء، والمعين على الضراء، والزين عند الاخلاء (المقربين) والسلاح على الاعداء، وبالعلم يبلغ العبد منازل الأخيار في الدرجات العلى، ومجالسة الملوك في الدنيا ومرافقة الأبرار في الآخرة. والفكر في العلم يعدل الصيام، ومذاكرته تعدل القيام، وبالعلم توصل الأرحام، وتفصل الأحكام وبه يُعرف الحلال والحرام. وبالعلم يعرف الله ويوحد، وبالعلم يطاع الله ويعبد).
نهر العلم وبحر الحكمة
عن علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال: أقل الناس قيمة أقلهم علماً، و.. العلم نهر والحكمة بحر، و.. العلماء حول النهر يطوفون والحكماء وسط البحر يغوصون، والعارفون في سفن النجاة يسيرون.
الأركان الستة
قال الشاعر :ألا لن تنال العلم إلا بستةٍ/ سأنبيك عن مجموعها ببيانِ/ ذكاءٌ وحرصٌ واصطبارٌ وبُلغَهٌ/ وإرشادُ أستاذٍ وطولِ زمانِ.
وقيل عن العلم:لا يبلغ المرء منتهى أربه/ إلا بعلم يجدُّ في طلبهْ/ وإتعب له تسترح به أبداً/ فراحة المرء من جَنىَ تعبهْ/ لا تتكل بعده على نسبٍ/ فالعلم يغني النسيب عن نسبهْ/ كم رفع العلم بيت ذي ضعة/ فقصَّر الناس عن مدى حسبهْ/ وإن يَسُدْ جاهلٌ فسؤدده/ بعد قليل يفضي إلى عطبهْ/ ما احسن وجهٌ للفتى بمفخرةٍ/ إن لم يؤيَّد بالحسنِ من أدبهْ.
العلوم الأربعة
قيل: العلوم أربعة: الفقه للأديان، والطب للأبدان، والنجوم للأزمان، والنحو للسان. وقيل: العالم طبيب هذه الأمة والدنيا داؤها، فإذا كان الطبيب يطلب الداء فمتى يبرئ غيره. وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا علم لي بها. فقيل له: ألا تستحي؟ فقال: ولِمَ استحي مما لم تستح الملائكة منه حين قالت لا علم لنا. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، من نصَّب نفسه للناس إماماً فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته، قبل تأديبه بلسانه، وقيل: مؤدب نفسه ومعلمها أحق بالإجلال من مؤدب الناس ومعلمهم.
قال الشاعر :أيها الرجل المعلم غيره/ هلا لنفسك كان ذا التعليم/ تصف الدواء لذي السقام وذي الضنىَ/ كيما يصبح به وأنت سقيم/ ونراك تصلح بالرشاد عقولنا/ أبدا وأنت من الرشاد عديم/ فأبدأ بنفسك فأنهها عن غيها/ فإذا انتهت عنه فأنت حكيم/ فهناك يقبل ما تقول ويهتدي/ بالقول منك وينفع التعليم/ لا تنه عن خلق وتأتي مثله/ عار عليك إذا فعلت عظيم.
وقال بعضهم :إني رأيت الناس في عصرنا/ لا يطلبون العلم للعلم/ إلا مباهاة لأصحابه/ وعدة للغش والظلم.
طرفة وعبرة
نظر رجل إلى امرأته وهي صاعدة السلم فقال لها: أنتِ طالق إن صعدت، وطالق إن نزلتِ، وطالق إن وقفتِ.
فرمت نفسها إلى الأرض فقال لها: فداكِ أمي وأبي، إن مات الإمام مالك احتاج إليكِ أهل المدينة في أحكامهم.
ويقال: العالم الفاجر فتنة لكل مفتون. ولو أن أهل العلم اكرموا أنفسهم وأعزوا هذا العلم وصانوه وانزلوه حيث انزله الله، إذاً لخضعت لهم رقاب الجبابرة، وانقاد لهم الناس، وكانوا لهم تبعاً، ولكنهم اذلوا انفسهم وبدلوا علمهم لأبناء الدنيا فهانوا.
قال الشاعر: ولم أقض حق العلم ان كنت كلما/ بدا طمعاً صيرته لي سلما/ ولم ابتذل في خدمة العلم مهجتي/ لأَخدم من لاقيت لكن لأُخدما/ أاشقى به غرساً وأجنيه ذلة/ إذاً فاتباع الجهل قد كان أسلما/ فإن قلت زند العلم كابٍ فإنما/ كَبَا حين لم نحرس من حماه وأظلما/ ولو أن أهل العلم صانوه صانهم/ ولو عظموه في النفوس لعظما.
لقمان الحكيم
وقيل: من لم يتعلم في صِغَره لم يتقدم في كِبَره. وقيل أيضاً: خير الأمراء من يجالس العلماء. وقال لقمان: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بماء السماء.
وقيل: من عُرِفَ بالحكمة لاحظته العيون بالوقار. وقيل ان علي رضي الله عنه قال: كفَى بالعلم شرفاً ان يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نُسب إليه، وكفَى بالجهل ضعة (الذل والهوان) أن يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نُسب إليه.
مفهوم جبران للعلم والتعليم
وكما ورد في كتابه ملخصاً في قوله: (ليس في مستطاع أي إنسان أن يكشف لكم؛ غير ما هجع نصف هجعة في فجر معرفتكم. والمعلم الذي يتخطر بين اتباعه في ظل المعبد لا يعطي من حكمته بل من إيمانه ومحبته، وهو إن يكن بحق حكيماً فلن يدعوكم لتدخلوا بيت حكمته، بل يقودكم إلى عتبة الفكر الذي هو فكركم. والفلكي إذا ما حدثكم عن فهمه للفضاء، فلن يستطيع أن يعطيكم فهمه.
والموسيقى قد يتغنى امامكم بما في الفضاء من نبض موقع، ولكنه لا يقدر أن يعطيكم الاذن التي تلتقط ذلك النبض ولا الصوت الذي يردده. والمتعمق في علوم الإعداد يمكنه أن يخبركم عن دنيا الموازين والمقاييس، ولكنه لا يستطيع أن يقودكم إليها. لأن الهام الواحد منكم لا يعير جناحيه للآخرين. وكما ان كلاً منكم يقف وحده في معرفة الله للكائنات، كذلك يجب أن يستقل بمعرفته لله وبفهمه للعالم الأرضي.
وعن معرفة النفس يقول: لا تقولوا لقد وجدت الحقيقة، بل قولوا بالأحرى لقد وجدت حقيقة.
قال الشاعر: بالعلمِ والمالِ يبني الناسُ ملكهمُ/ لم يُبنَ مُللكٌ على جهلٍ وإقلالِ.
قيل: العلم مقرون بالعمل فمن عَلِمَ عَمِلَ، وخير العلم ما نفع، و.. تعلم السحر ولا تعمل به.
وقيل: تلقَّط شذورَ العلم حيث وجدتها/ وسلها ولا يخجلك أنك تسألُ/ إذا كنتَ في إعطائك المال فاضلاً/ فإنك في استعطائك العلمَ أفضلُ.
وقال شاعر آخر: خذِ العلم يا ابني من حكيمٍ وجاهلٍ/ فقد يستفيد الفيلسوف من الغرِّ/ وإن نفيس الدرِّ ما ضاع قدرهُ/ إذا كان في كفَّي وضيعٍ بلا قدرِ.
منهومان
قيل: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا.
ويقال: من رق وجهه رق عِلمهُ، و.. تفقهوا قبل أن تسودوا. وقيل: وصلت بالعِلم وكسبت بالملح.
ومن ينتحل صفة العلم فيقال: لكا لحادي وليس له بعير، ولكا لماشي وليس له حذاء.
المدَّعي
قال أبو نواس: فقل لمن يدعي في العلم معرفة/ حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءُ.
وقالوا: إذا أردت أن تفحم عالماً فأحضر له جاهلاً. وفي الحديث الشريف: خذوا الحكمة ولو من ألسِنة المشركين.
أجر 70 نبياً
عن ابن مسعود رضي الله عنه: انه من تعلم باباً من العلم ليعلمه الناس ابتغاء وجه الله اعطاه الله أجر سبعين نبياً.
وقال الشاعر: العلم أنفس شيء أنت داخره/ من يدرس العلم لم تَدْرُس مفاخره/ أقبل على العلم واستقبل مقاصده/ فأول العلم إقبال وآخره. (تَدْرُس بمعنى طمسه ومحاه).