العظماء لا يرحلون لأنهم يتركون من طيب ذكرهم ما يبقى خالداً أبد الدهر، وتتناقل الأجيال سيرتهم غضّة حيّة كما لو أنهم يعايشونها لحظة بلحظة..
والمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، كان قامة إنسانية باسقة، يفوح عطره على كل من عاصره، فأصبحت يومياته معهم كنزاً ثميناً يتناقلونه بين أبنائهم وأحفادهم ميراثاً عزيزاً يستقون منه ما يهتدون به في الحياة..
هذه صفحة يومية لأناس عاصروا الشيخ زايد بن سلطان يروون أحاديث الفكر والقلب والوجدان ممزوجة بعبق المحبة الغامر.
معالي حمد بن عبدالرحمن المدفع، أمين عام شؤون المجلس الأعلى للاتحاد في وزارة شؤون الرئاسة، شخصية وطنية عاصرت وعايشت المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، «طيب الله ثراه»، ورافقه في بعض من زياراته الخارجية والداخلية، وينظر إليه «رحمه الله» كأحد زعماء العالم الذين برزوا في القرن العشرين، وأثّروا في دولهم ومحيطهم بسياساتهم التنموية وقيمهم الإنسانية العالية، كما لعبوا أدواراً مؤثرة على الصعيد العالمي.
ويصف حمد المدفع، الشيخ زايد طيب الله ثراه بأنه شخصية تاريخية مؤثرة، ونموذج في العطاء والتسامح، تركت بصمة ناصعة البياض في نفوس أبناء شعبه والشعوب العربية والدول الشقيقة والصديقة، لأن عطاءه تجاوز حدود دولة الإمارات العربية المتحدة التي أسّسها وبنى نهضتها.
زايد رجل القرن العشرين
وفي حديثنا معه، قال معالي حمد بن عبدالرحمن المدفع، إن القرن العشرين شهد تغييرات كثيرة وتقلبات أكثر في العالم نتيجة نشوب حربيْن عالميتيْن، وزعتا العالم إلى محاور وقسمته إلى أقطاب، وتركت بلداناً كثيرة تعاني آثار الدمار وملايين الضحايا، كما شهد القرن العشرون ثورة صناعية كبيرة تطورت بسرعة خلال عقود قليلة، حتى أصبحت الصناعة اليوم تدخل في تفاصيل حياة البشرية، ولا سّيما ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال.
وأشار معاليه إلى أنه من بين مستجدات القرن العشرين ظهور زعامات عالمية غيّرت وجه التاريخ في بلدانهم ومحيطهم، وكسبت احترام قادة وشعوب العالم، وكان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، «طيب الله ثراه» من بين تلك الشخصيات والزعامات، حيث أسّس دولة عمادها الصدق والإيمان والطموح والإنسان، فكانت أول تجربة وحدوية ناجحة في التاريخ العربي المعاصر، وقد وضع نصب عينيه منذ اليوم الأول لتسلّمه المسؤولية حاكماً لإمارة أبوظبي، أو رئيساً لدولة الاتحاد، أن يوفّر العيش الكريم لشعبه وللأجيال الصاعدة، وأن ينشر قيم البناء والعلم والعمل في نفوس الجميع رجالاً ونساء.
النفط لبناء الدولة
وأضاف معالي حمد المدفع إن من بين التغييرات الرئيسية التي ظهرت في القرن العشرين، اعتماد العالم على النفط كمادة رئيسية لإنتاج الطاقة، والمئات من المنتجات التي يُستخدم النفط في تصنيعها، حتى أصبح هناك ما يسمّى بـ«الصناعات النفطية»، مما أنعش شبه الجزيرة العربية وإماراتها ومشايخها، بعد أن كانت تعيش حياة بسيطة وقاسية.
وأكد معاليه أن الشيخ زايد «رحمه الله» وظّف العائدات النفطية لخدمة النهضة والتنمية الشاملة في دولة الإمارات العربية المتحدة، أما على الصعيد الداخلي فبنى المجمعات السكنية والبيوت للمواطنين وشيد المدارس والجامعات والمستشفيات والعيادات ومراكز الأمومة والطفولة، كما شيّد الطرق والجسور والسدود، وأمر بتوفير بنية تحتية متقدمة ومتطورة لتعزيز الأعمال التجارية والاستثمارات وتسهيل حركة الناس وحياتهم واهتم بالمكتبات وبالثقافة والبيئة والطفولة والمرأة وكبار السن وأصحاب الهمم، حتى أصبحت الإمارات نموذجاً في التطور والبناء والتسامح والتعايش، لتستحق بعدها الفوز بلقب أسعد شعب عربي لسنوات متتالية في عهد صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة «حفظه الله»، كما أصبحت من أكثر الدول استقطاباً للعمالة ورؤوس الأموال وأكثرها استخداماً لتكنولوجيا الاتصال والتواصل بجهود صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي «رعاه الله»، وأخيه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأصحاب السمو أعضاء المجلس الأعلى حكام الإمارات وأولياء عهودهم.
تقدم ورفاهية
وقال معالي حمد المدفع إن تطور الدولة وتقدّمها ورفاهيتها ما كان له ليتم لولا القيم المجتمعية والعلمية والعملية التي أسّسها الشيخ زايد «طيب الله ثراه» وتعزيز الرعاية الإنسانية، وكان سموه يؤمن أن خير البلاد يجب أن تستفيد منه الشعوب الشقيقة، فساهم «صندوق أبوظبي للتنمية» الذي أسّسه الشيخ زايد سنة 1968 في إحداث نهضة كبيرة محلياً وعربياً، وطال عواصم عالمية كبرى أيضاً.
وكان معالي حمد عبدالرحمن المدفع مرافقاً للشيخ زايد «طيب الله ثراه» في العديد من زياراته الخارجية المهمة، وذلك بسبب المناصب التي تسلّمها ومن بينها وزير للصحة والتربية والتعليم، إضافة إلى المناصب الدبلوماسية، ويذكر معاليه زيارة المغفور له (بإذن الله) إلى اليمن في الثمانينيات بهدف وضع حجر أساس سدّ مأرب، وهو من المشروعات الكبرى التي عادت بالخير والازدهار لليمنيين، وكان الشيخ زايد فرحاً وهو يرى الأمل مرسوماً على ملامح وجوه الأهالي، وربط تلك اللحظة باستعادة تاريخ اليمن السعيد، وبعد الانتهاء من بناء السد، ازدهرت المنطقة ونشطت التجارة والزراعة.
لاهور
كما رافق معالي حمد المدفع الشيخ زايد لافتتاح مستشفى في «لاهور» بحضور الرئيس الباكستاني ضياء الحق، ولفت انتباهه توقّف الشيخ زايد عند الأجهزة الطبية للسؤال عن أهميتها ودورها في العلاج ومردودها على المريض، فقد كان (رحمه الله) يفتّش عن كل ما يفيد الناس في المجالات العلاجية والطبية والتعليمية والتجارية، وكان الشيخ زايد شديد الاهتمام بالأجهزة الطبية وتطوير الخدمات العلاجية في الإمارات وخارجها، وقد ساهم في تأسيس ودعم صندوق برنامج الرئيس كارتر لاستئصال «دودة غيني»، وعندما نجح المشروع أرسل معاليه لحضور الاحتفال الذي أقامه الرئيس كارتر في الخارجية الأميركية، وقدّم له هدية، وذلك في إطار المساهمة العالمية في محاربة الأمراض ووقف انتشارها، كما ساهم الشيخ زايد «طيب الله ثراه» في تأسيس «جائزة الصحة» بمنظمة الصحة العالمية، ومُنحت لشخصيات على مستوى الرؤساء وزوجاتهم.
استصلاح الأراضي
وشملت زيارات الشيخ زايد المشاريع الزراعية واستصلاح الأراضي واطلع على المحميات العالمية، ونقل كل ذلك الاهتمام وترجمه في بيئة الإمارات، فشجّع على الزراعة وأسّس محميات برية وبحرية.
ورافق معاليه الشيخ زايد «رحمه الله» في جولاته الداخلية على المستشفيات، وكان يأمر بشراء أيّ جهاز طبي ينفع المرضى ويسهّل التشخيص والفحوص، كما كان يستفسر عن أحوال الأطباء والمرضى ويطمئن دائماً على كبار السن، ورافق الشيخ زايد في الجولات على المدارس أيضاً، وكان (رحمه الله) يولي الطفولة رعاية خاصة، فيجالسهم ويتحدّث إليهم ويضحك معهم فيرسم الفرح في نفوسهم، وجميع الأطفال كانوا ينادونه «بابا زايد».
وقال معالي حمد المدفع إن حبّ الشيخ زايد للمعرفة كان يتمثّل في طرح الأسئلة خلال زياراته الخارجية للتعرّف على أفضل الممارسات العالمية ونقلها إلى الإمارات لتحقيق الرفاهية لشعبه، وجميع المقيمين على أرض الإمارات المعطاء.
نصير المرأة
اختتم معالي أمين عام شؤون المجلس الأعلى للاتحاد حديثه بالقول: إن الشيخ زايد (رحمه الله)، وعلى الرغم من انشغالاته ومسؤولياته كلّها، كان شديد الاهتمام بقضايا المجتمع ولا سيّما المرأة، فقد فتح لها أبواب التعليم وأنصفها بالأجر في أماكن العمل، وسهّل انخراطها في العمل لإيمانه بدورها في المشاركة في بناء الوطن وتهيئة الأجيال الصاعدة، كما فتح لها مجالات العمل على المؤسسات الرسمية وقياداتها، ترجمة لأهمية دورها التنموي في الدولة والمجتمع والأسرة، إضافة إلى اهتمامه بالقضايا المجتمعية الأخرى كالزواج وتسهيل إجراءاته وتقليل الأعباء على الشباب المُقبلين على حياة أسرية جديدة، انطلاقاً من قناعته بأن الأسرة المستقرة هي عماد المجتمع الآمن والمتحضر.
راحة النفس
أكد معالي حمد بن عبدالرحمن المدفع أن الحديث عن المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه يخلق في النفس راحة وطمأنينة.
وقال: إننا ونحن نحتفي بـ«عام زايد»، فإن كلمات الشكر لا توفيه قدره، رحمه الله، فقد كان محبّاً للحياة متفائلاً ومتوكلاً على الله تعالى في كل شيء، وإذا كنا نتذكر رحيل المغفور له في شهر رمضان فإن ما يجعل فراقه محتملاً هو شعورنا بأنه حيّ في نفوسنا وضمائرنا وقلوبنا.