مما قال أمير الشعراء أحمد شوقي في فضل المعلّم والحث على تعظيمه وتوقيره لأن في ذلك تعظيما للعلم الذي يبذله في سبيل إنارة عقول الناس وإخراجهم من ظلمات الجهل وضيقه إلى فضاءات المعرفة التي يحلق العقل المستنير في رحابها الواسعة مدى الوسع ومدى الحياة:

قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا

كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا

أَعَلِمتَ أَشرَفَ أَو أَجَلَّ مِنَ الَّذي

يَبني وَيُنشِئُ أَنفُساً وَعُقولا

سُبحانَكَ اللَهُمَّ خَيرَ مُعَلِّمٍ

عَلَّمتَ بِالقَلَمِ القُرونَ الأولى

أَخرَجتَ هَذا العَقلَ مِن ظُلُماتِهِ

وَهَدَيتَهُ النورَ المُبينَ سَبيلا

الملحوظ من الأبيات الشهيرة أعلاه، أن شوقي يمتدح هنا المعلم وينصرف إليه باعتبار أنه لا قيمة للعلم بدون معلمين، ومفهوم المعلمين ينبغي أن يتسع ليشمل كل من أسدى معرفة للآخرين بمن في ذلك المؤلفون للكتب والمحاضرون وغيرهم.

وقد نلحظ أن المادحين حين يمتدحون أهل الجود، فإنما يثنون على الكرم بوصفه فضيلة يشرف بها من يتعلق بها، فالكريم يستحق الإجلال والإكبار لأنه تحلى بخلة الكرم التي تجل وتعز على الناس، إذ «الجود يفقر» كما قال المتنبي.

ولكن فضل معلّم العلم أفضل من العلم ذاته، لماذا؟

لأن الكريم لا يمنح الناس كرمه فيكونون مثله، وإنما يعطي بكرمه شيئا آخر زائلاً ويحتفظ بنعمة الكرم لنفسه، كالمال والأنعام والكسوة وغيرها، وبالتالي فإن صفة الكرم ليست متاحة للتداول بين المعطي والمتلقي، تماما كصفة الشجاعة والمروءة، فهذه صفات أسيرة أهلها، وأما صفة العلم فهي على غير ذلك، فالعلم قابل للتداول في حد ذاته. وبالتالي فالعلم عملة قابلة للتداول الفوري والمباشر بين الجميع، الكبير والصغير، الأعمى والبصير والغني والفقير، وكل يعطي غيره دون أن ينقص ذلك من عمله شيئاً.

لا، ليس هذا فحسب، وإنما نلحظ أن الشاعر لم يمتدح «العالِم»، رغم فضل العالم «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»، بل امتدح المعلّم، فالعالم ربما حبس العلم على نفسه، ليكون خيراً ممن لا يعلم، ولكن العالم حينما يعمد إلى تعليم غيره فإنه حينئذ معلم يستحق المديح الذي انبرى له أمير الشعراء، لأن التعليم عطاء يتزايد بيد المتلقي، وهو خير أعمال الخير، كيف لا والظالم جاهل أعمى البصيرة، والشحيح جاهل والمعتدي على الذمم وحقوق الناس والمسيء والمتكبر والمؤذي الناس.. كل أولئك جهلاء ما عرفوا حقيقة الحياة ولا فهموا جوهر إنسانيتهم الذي ينبغي أن يصونوه ويدافعوا عنهم لكي لا يتوحشوا.

وما ذهب إليه شوقي من احتفاء بالمعلم، بوصفه منبع كل خير، يستقيم مع حديث نبوي شريف يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ في جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ».

ولكن أشرف ما امتدح به شوقي المعلم هنا هو إشارته إلى أن الله عز وجل نفسه معلم، وأن خير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، معلم.